الشاعرة فاتن حمودي: أخلط قهوة الحياة بالكلام وأضيء الأمكنة



في مجموعة فاتن حمودي "قهوة الكلام" تطل علينا الشام، وكأنها أجمل قمر عرفته السماء، امرأة من نار ونور تغوينا بتفاصيلها، وتستدرجنا إلى توتها ومائها العذب. نقطف ياسمينها ونسري مع الذكريات والأحاسيس، نفتح أبوابها السبعة، وننكسر عند الجراح التي حفرها الجلاد في الجسد العريق، وتقول الشاعرة: "كم غرنيكا يلزمنا كي نختصر كل هذا الليل"، وهي تكتب الألم السوري بالكثير من الحب والوجع.
مع الشاعرة فاتن حمودي كان لي هذا الحوار عبر المراسلة.

*"أنا القيامة.. بدء الأشياء ونهايتها تقول البلاد"، "كم غرنيكا يلزمنا كي نختصر كل هذا الليل"، ولعلك بهذين المقطعين والكثير من الأبيات الأخرى كتبت تفاصيل المأساة السورية ما بين نداء الحرية والقمع الوحشي من دون الوقوع في المباشرة، فكيف استطعت أن تسحبي الألم من إطار الوثيقة إلى مجاز الشعر من دون خيانة أي من الطرفين؟
**هل أبدا من الحلم، أم من خيبات متتابعة أمام وصول هذا العالم إلى الحضيض، من أين أبدا النص وخيال المستبد فاق كلّ الخيالات. في هذه اللحظة أتذكر سؤال محمود درويش، "بماذا سوف نحلم، حين نعود من الحلم وقد علمنا أن مريم لم تكن عذراء؟".  
ولأن النار كانت أول حركة شعرية كتبها الانسان، فإن الشعر بعمومه ذاتي وعام، وشاهد على الزمن، مثل كل الفنون، فكيف إذا كانت الكتابة مغامرة في الحياة والمعنى والتجربة، في منطقة مزدهرة بالكوارث، ويبقى السؤال: كيف يحضر الجمال في حالات الموت والتهديد الأقصى للحياة؟.
في الجاهلية وقبل التدوين والتواصل الاجتماعي، نجد أن عنترة العبسي يتذكر حبيبته في أتون الحرب والمعركة، "وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ/ مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي/ فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها/ لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ". وفي وعينا القريب ما كتبه سعد الله ونوس في مواجهة المرض "عن الذاكرة والموت"، هو استدعاء للجمال والحياة معًا، لهذا نذهب إلى الشعر، حين يتحوّل اليومي إلى عادي، فكيف إذا تهدد الوجود بالموت والحرب، هذه اللحظة تدفعني لفتح نوافذ على العشق والحب، اخلط قهوة الحياة بالكلام وأضيء الأمكنة، ولا أذهب بشكل عقلاني، وإنما بشكل حلمي، الحياة منام وأنا أعيش فيه.
حين صرخ الشعب السوري بكلمة حرية راح إلى الحلم، وسرعان ما بات هذا الحلم على شفا حفرة من النار، وبتنا كأننا نقف بين خطي الوجود والعدم، ونسأل أين نحن؟ من نحن؟ إلى اين؟ سؤال الهوية والمصير، نبتة الخلود والتوق، لذا فإن "قهوة الكلام"، كذلك "متتابعات دمشق"، أعادتني إلى الشام، إلى صور وأصوات،  فالغربة أن تصب قهوتك هنا وتشربها هناك، كما قال الكاتب صلاح الصالح، ترفع نخب المكان والوجوه، وتشد الصباحات مع صوت فيروز، اشمُّ رائحة اختي لينا وأصدقاء كثر، واشربها هنا مع صديق دمي، الذي أتقاسم معه خبزنا اليومي، وحين أجد نفسي أمام فراغ، وحدي اقول من المؤكد أنني سأنتحر..
انا التي درست الفلسفة وأيقنت معنى ارتباط الجمال بالخير، أرى الشام اليوم وقد غطاها السخام والتعتير، آخذ نفسًا عميقًا، واركض نحو الطفلة التي لا تزال داخلي، كي استحضر رائحة غسيل أمي، ورائحة الكتب والعطور في المسكية، رائحة البهارات في البزورية، وماء الزهر، أمشي في الصاغة وسوق الحميدية، أعبر أبوابًا سبعة، وأنهارًا، وكأنها أول مدينة في الخلق، ابواب الأموي، وابواب الشام، وبردى والفيجة، مدينة من ماء، وبيوت مفتوحة على الدعاء والسماء.
يعيدني سؤالك إلى "ساداكو والكراكي"، هذه القصة الطويلة التي ترجمتها يومًا، والتي تحكي عن طفلة يابانية أُصيبت باللوكيميا، بعد أن أُلقيت القنبلة الذرية على مدينتها، فدخلت في لعبة الحلم، أرادت أن تصنع طائرات ورقية وترسل مع كل طائرة امنية كي تُشفى، هذه الساداكو استدعت الطفلة بي والحلم والزواريب ورائحة خبز المشروح، ورائحة الكتب المستعملة والعطور في المسكية، ففي العلاقة مع الكتابة، نلعب على الموت، نلعب على الشتات، على اليأس، فالكتابة حياة كاملة، كلها إغواء وشغف ومطر وأغصان كما أول العشق، وأول الغياب، وأول المطر، فإذا كنا نعيش التراجيديا الإنسانية بوصفها تراجيديا شخصية، فإن الشعر وثيقة جمالية وعصافير هاربة من المخيلة.
*"يا شام أنا بدون أصواتك، أغنياتك، حمائمك، أزقتك، ياسمينك لست/ غير كلب لاهث يعض قمصان الغياب". كيف تحضر الشام في قصيدتك، وكيف غدت "قهوة الكلام" وكأنها لوحة للشام رسمها الشوق، وما هي بدائلك لمواجهة الغياب واستعادة الحياة التي انتُزعت منا؟
**المكان فينا، معبرنا للوجود، من اجل ذلك دمشق اجمل المدن. أعض على اصابعي وشفاهي حتى تدمى، فلا أنا هنا ولا هناك، وكأن روحي موزعة على الشتات، أحاول أن اضمها مثل خرز الفيروز والعقيق الذي كان طوقًا في عنق أمي، فتأتي الشام ولا ادري كيف، وكأنها حصان الرهان الأخير.
أمام الإحساس بالزمن والمحو والإلغاء، والإقتلاع، يلّح علي سؤال: من أنا؟ وإلى أين؟ ما الذي ينتظرنا نحن الذين نموت غرباء هنا وغرباء هناك، وسط هذا المشهد أجد نفسي أكتب، ولا أدري لماذا تطل الشام في نصوصي، كأنها أمي وأختي ورائحة طفولتي ويتمي ومراهقتي وعبثي وشبابي، فيحضر الصوت والرائحة والأزقة، صورة أمي الصبية الأرملة وهي تقف أمام المرآة، صورة ابي الذي دهسته الحافلة، صورة بردى الذي تغير، وصورة الشام هذه المدينة التي سقطت سهوًا من الجنة، والتي تفتح ابوابها السبعة للعشاق والمجانين والنساك وقاطعي الطرق. من هنا مرّ جلال الدين الرومي والبسطامي ودرويش وقباني، وصادق جلال العظم،  وأحمد برقاوي، من هنا مرّ الواسيني، وربيعة الجلطي وسيف الرحبي، وحسان عزت، والزاوي أمين، ومظفر النواب، وصلاح الصالح، ومضوا حاملين دفء الحارات وتلاوين الصوت، صوت الأموي، وأجراس الكنائس والباعة المتجولين، مدينة تضج بالحياة، أن ترى هذه المدينة العريقة وقد تحوّلت إلى مدينة مهترئة، مهترئة، مهترئة بالوجع والسخام وأقدام جنود لم يعرفوا قداسة هذه المكان، الذي أحتضن ابن عربي، ورواق الفنانين ولاتيرنا الحلم، وقاسيون يقف بصورته الموحشة أمام انسحاق الزمن، لابد من الحرية، حرية الكتابة الكاسرة للحدود والتابوات.
في سياق الكتابة، تقف أمامي صورة جدتي وهي تقرأ لي الفنجان، وترى دائما فسحة بيضاء، فسحة فرح، أعرف لاحقًا أنها كانت تنظر للبعيد بإشعاع لامثيل له، نحن المطرودون من الفردوس، نتمسك بصوت فيروز أجمل من غنت للشام، ربما من أجل هذا كان لحروفي صوت المشاعر، رائحة طين البيوت، الطين الذي خلقنا منه، والشام حمامة بجدار الأموي. دمشق وطني وكل ماعداها غربة، هويتي التي تمحوها ريح الحرب والطائفية وجنون المستبد، الشام ريحة تاريخ ألف حكاية وحكاية تلتقطها وأنت تدق أبوابها، أبلل ريقي بالكتابة بعد أن جفّ من نهارات أخرى، وتحت أكثر من سماء، النهر الذي شهد على عاشقين يسرقان الدفء والقبل، ويغسلهما المطر ذات رحلة ورصيف، النهر وحده حكاية، يرانا ولا يسألنا، لا نراه ونبكي "لي فيك يا بردى"، وفي  لحظات التهديد الكبرى والموت يتمسك الطفل بأمه ويقول يا امي، هذا الوعي المشع الذي يبتعد، يعود اليوم في مرآة امي وصورة ابي وجدتي، وحبيبي، التهديد الكبير للشام يجعلني أتمسك بكل زواريب الحلم، أنا ابنة المنام.
*تضج المجموعة بالحياة بالرغم من كل مشاهد الموت والغياب التي تصفيها، فكيف تبنين تلك الصور المتشابكة من الأمكنة والروائح والأسماء الحقيقية والعلاقات الشخصية في الفضاء الشعري، وكيف تنظرين إلى خصوصية الشعر في كتابة السيرة أو الحكاية؟
**لأن الشعر ذاتي وكوني، فهو يتقاطع مع النثر والقصة القصيرة، وربما مع الموسيقى، والفنون التشكيلية، والمسرح، ولا أدري لماذا الشام هي مسرحي المجنون، الشام التي أحملها معي تميمة في عنقي كما أوصتني أمي، ولأن الشعر حياة، فإن السيرة الذاتية تحضر بشكل مكثف، وموارب، كلحظات عشق مهرّبة، تأتي على شكل ظلال، وضوء، تطلع كجزء من الحالة والدفق، فالشعر إبحار.
"ضيقة هي المركب"، الشعر يقلب المراكب، لهذا هناك شعراء يموتون باكرًا، الشعر لا يخضع للعقل او الذهنية القصدية، تتداخل فيه الموسيقى واللون والصورة، تمرّ الحكايات على شكل ومض، وغموض، وصور يتداخل فيها أزمان وأمكنة ووجوه.
مريضة بالشام أنا، مريضة بالحارات والمقاهي والدوالي، و"في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار"...تشبهني هذه الأغنية، تشبه حزني صديقتي.
كتابات كثيرة تستوقفني، مرام المصري، رشا عمران التي نقرأ عن وحدتها وعزلتها وعشقها ونساء مررن على عتبة البيت، نعود إلى دعد حداد، "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"، آفين ابراهيم وصورة الأب، والمرأة الحاضرة في تفاصيل القصيدة، ندى منزلجي وصورها السريالية، مها بكر وتكثيفها العالي للقصيدة التي تلامس التشكيل والموسيقى، تستوقفيني أنت  تهامة الجندي بنصوصك  التي أمسكت بها بتلك الطفلة وصورة الأب، ومدن الاغتراب.
*تكتبين: "تاريخي لحظتان: واحدة معك، ولحظات اخرى متشابهة/ ما أطول يتمي؟"، وأود أن أسألك عن الاكتمال بالمعنى الإنساني الذي لا يتحقق إلا بحضور النصف الآخر؟
ابدأ الإجابة بالشعر وأقول: "غصن أجوف.. أنا/ كلماتك تطلع مني الموسيقا"، قبل أن أبدأ بالآخر، اسأل من أنا؟ ولماذا تعددت الأنوات عندي، أنا أمرأة العصف والزمهرير، الشجرة الهاربة من فيئها، نسيت ملامح وجهي، ومن هو هذا الآخر، هل هو واحد أو متعدد كما أنا؟ سؤال الحياة والتجربة وربما الدخول في منام طويل.
طبيعي أمام اليومي والعادي أن أهرب إلى نص وكتاب ورواية، هناك ينبت لي كتف استند عليه، ورجل أحكي معه عن كتابه، أو لوحته، أو عن أغنية، وربما عن الرجل الذي جعلني أرى نفسي في مراياه كما يراني أو أراه، الرجل أحوال وحالات، ومن بين هذه الحالات تقف صورة أبي مع صورة الحبيب، فأقول: "ابتعدَتْ كلماتُكَ فتلبدتْ روحي/ العتمةُ تسللتْ بين أوراقي كأنفاسِ/ أبي قبل أن تدهسَهُ حافلةٌ وتمضي/ لكنّ الرياحَ لا تنسى أبدا ../ فصوتُكَ في كلِّ مكان".
طبعا حين أتحدث عن الرجل، يحضر صديقي الشاعر حسان عزت، يملأ الشاشة، فأغني مع فيروز" أنت اللي بحبو واللي بكرهوا أنت" أو" لاقدرانه فل ولاقدرانه أنسى"، نتشارك معًا القهوة والصباحات واللقاءات والأصدقاء والشغب والعتاب والقراءات، وعيوننا دائما نحو الشام.
*"ولأن الزمن بلا رجولة/ وحدي أقص ضفائر الشجر/ أرمي الأوراق خريفا/ أحمل الصخرة درجة درجة"، وفي الصورة الشعرية تعبير جميل عن قهر الكاتبة المركب في المجتمع الذكوري. ما هي العناوين الأساسية لهذا القهر والخذلان من خلال تجربتك الشخصية وملاحظاتك حول تجارب النساء الأخريات؟
"ولأن الزمن بلا رجولة/ .../ أحمل الصخرة درجة درجة"، ليس من  باب المازوشية، بل من باب الصبر، الذي هو الباب الثامن لدمشق ونسائها، فالشام امرأة، لهذا قال ابن عربي: "العالم الذي لا يُؤنث لا يعوّل عليه" والحياة تعرجُ حين يتكئ العالم على المرأة. أنا المرأة الهاربة من ظلها يحاصرني غبار المسؤولية، يسألني أحد الأصدقاء: متى تكبين فاتن، وأنت محاصرة بكل هذه الأعباء،؟ أرد: أكتب في وقتي الذي أسرقه لأنشل روحي من عالم الزحمة والغبار.
ماذا نقول وقد سُدت بنا السبل، وأُغلقت كل أبواب الشام قسرًا أمام عشاقها، أتسمعين؟ العالم يلهث، ومن المؤكد أنني سأًجن، من المؤكد أنني سأنتحر. كأننا تجاوزنا عنبر تشيخوف، فغرقنا بالرمل، وغرق غيرنا بالبحر والمعتقلات، نحن المحكومين بالشتات نبحث عن القصيدة كخلاص جمالي مؤقت، أدفع فواتير الفرح والحزن، كي يناموا مطمئنين، بأنني سأدبر الزمن، وأرتق الاهتراء، وأفتح نوافذ التهوية، وازرع الورد، وأردد مع درويش: "لاشيء يعجبني/ الغجر وحدهم يعرفون الطريق/ يرصُون عرباتهم كلما تعبوا من المسير/ يضربون الأرض برقص الفلامنكو ..يحلقون....كأفراس عشق عتيقة/ أضعت الطريق/ أعترف ألف مرة بأنني أضعته".

حوار: تهامة الجندي
جيرون 25 آب 2018

فاتن حمودي
كاتبة وصحافية سورية، عملت في عدد من الصحف الإماراتية. أعدّت مجموعة من الأفلام الوثائقية، وكتبت سيناريو 13 فيلمًا وثائقيًا عن تاريخ أبوظبي و13 فيلمًا وثائقيًا عن الحركة التشكيلية الإماراتية. صدر لها: "الباب الحزين" قصص أطفال، "ساداكو وطيور الكراكي" إلينا كوير (ترجمة)، "الشجرة المعطاء" قصة للأطفال، شيل سيلفريستين (ترجمة).

"قهوة الكلام"، مجموعة شعرية، تأليف: فاتن حمودة، الناشر: الكوكب/ رياض الريس للكتب والنشر، لبنان/ بيروت 2015.

من أجواء "قهوة الكلام":
"كلّ شيءٍ موحش
لا تفتحي نافذة الليل فيلسعُك غيابُه
وتلسعُك الوحدة
لا تفتحي النافذة على ليل دمشق
...الليل يواري وجهه من نجوم غابت وقمر يسيل دمًا
الليل غريب عن ليله
لا صحو ولا خمرة ...ولا أنت حبيبي
لا امرأة عارية في اللوحة.....ولا جدار
وأصرُخ في البرية.. أمي
ضاقت بي ارض الله
وضاقت نافذتي وأنا برداااانة"..
...
"بعد أن تمادى الزمن ُوهذا الخريف الباذخ بالسقوط
كان لابد أن أواصل عراكي مع السراب
أمكثُ في مكاني
أضحكُ وأبكي من زمنٍ بلغ سنّ الجحود
يوم مات أبي كنت لا أزال طفلة
ويوم ماتت جدتي كنت عاشقة وتيتمت
ويوم ماتت أمي أصبحت وحيدة في هذا العالم
وحدتي وأنا
لا نكفُ عن الحياة
هكذا أبعثر حكايتي
منامي لن ينتهي".

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح