بعد الموقعة لـ يسري نصر الله.. المرأة بطلة الحراك الثوري والتغيير

فيلم بعد الموقعة

ربما لم يكن "بعد الموّقعة" أحد أجمل أفلام المخرج المصري يسري نصر الله، أو أكثرها نجاحا، لكنه بالتأكيد واحدا من أهمها، أولا لقدرته على إعادة الفيلم الروائي إلى واجهة الاهتمام، بعد أن سُحب البساط من تحته، في ظل الثورات العربية، التي دفعت بالفيلم التسجيلي وأشرطة الفيديو إلى الصدارة، كأدوات مفضلّة للتعبير عن الأحداث الساخنة وتوثيقها. وثانيا لقدرته على طرح العديد من الأسئلة الجادة، حول إمكانية السينما العربية في إعادة إنتاج مجريات الثورة بقالب درامي، يراعي جماليات الفن، ولا يخون الواقع؟ وقد عُرض الفيلم في مركز "wake" الثقافي ببيروت، بحضور الناقد السينمائي إبراهيم العريس، الذي أشار إلى أن العمل يندرج ضمن لائحة، تضم ستين من الأفلام التي تقارب موضوع "الربيع العربي".

يعود الفيلم إلى الأيام الأولى من الثورة المصرية، ويتناول دور المثقف في معركة التغيير الفكري، لخلخلة وتفكيك منظومة الثوابت والقناعات، التي تغذي أواليات الظلم والاستبداد، وتعمل على تكريسها المرة تلو الأخرى، يطرح الموضوع من خلال حبكة درامية، تقوم على علاقة عاطفية ملتبسة، تنشأ بين ناشطة مسيّسة وبلطجي مضلّل، ومن خلال هذه الحبكة يصبح من اليسير، تسليط الضوء على عالمين متناقضين تماما، والكشف عن أوجه الخلاف والصراع بين نماذج بشرية، متباينة في مواقفها ووجهات نظرها من الثورة ومستجدات الواقع.

تبدأ القصة بلقطات وثائقية عن اعتصامات ميدان التحرير، وما عُرف بـ"موقعة الجمل"في الثاني من شباط/ فبراير 2011، حين دخل الساحة عدد كبير من "بلطجية" الرئيس المخلوع مبارك، وهم يعتلون ظهور الجمال والأحصنة، وقاموا بالاعتداء على المتظاهرين. ثم ينتقل المشهد إلى متظاهِرة، تروي بجرأة وغضب، كيف تعرّضت للتحرّش الجنسي، مثلها مثل الكثيرات من المتظاهِرات، بعدها ترصد عدسة التصوير طموحات المصريين المستقبلية: دولة مدنية ديمقراطية، يتساوى الجميع تحت سقفها، ولا يجوع فيها أحد. بداية هي أشبه بالتسجيل الموثّق للخلفية السياسية، التي سوف ينبثق عنها مسار الحبكة، بكل ما ينضوي عليه من شخصيات وحيثيات لاحقة.

تقودنا المشاهد الاستهلالية إلى شركة إعلانات متلّفزة، تعمل لديها الناشطة ريم (منة شلبي)، التي تقرر أن تتحرى بنفسها عن حقيقة ما حدث، بأن تذهب مباشرة إلى المكان الذي خرج منه من شارك في قمع المتظاهرين خلال "موقعة الجمل"، أو "نزلة السمان" وكما يتضح من سياق الفيلم، هي قرية تقع بمحاذاة أهرامات الفراعنة، وتمثال أبي الهول، ويعتاش سكانها من الأجور التي يحصلون عليها، لقاء تخّديم السيّاح الوافدين إلى المنطقة، اصطحابهم إلى الأماكن الأثرية، والطواف بهم على ظهور الخيل والإبل التي بحوزتهم، وتأمين طلباتهم، وما يتبع ذلك من تجارة الحشيش والجنس، وتصريف العمّلات الأجنبية بالسوق السوداء. هذه التجارة القائمة من دون أي صبغة شرعية أو ترخيص، التي توقفت تماما بسبب اندلاع الثورة، فتضررت مصالح السكان، ووقفوا إلى جانب النظام.  

 تذهب ريم إلى "نزلة السمان" برفقة صديقتها دينا (سلوى محمد علي)، الطبيبة البيطرية التي تتطوع لتوزيع العلف على أهالي القرية المنكوبة، بعد أن توقفت السياحة، وفي الطريق تبدو الناشطة متوجّسة، تسأل صديقتها كيف تتعامل مع أولئك البلطجية، وعند وصولها تصادف محمود (باسم سمرة) وهو يُطرد ويُمنع من أخذ حصته، وفي منزلها تكتشف أنه هو ذاته الخيّال الذي صورته كاميرات التلّفزة، يسقط عن فرسه في ميدان التحرير، ويشّبعه المتظاهرون ضربا.

في المساء تعود ريم إلى المكان، لتصوير الاحتفال بعودة الحاج عبد الله (صلاح عبد الله) الرجل الثري، وممثل النظام في المنطقة، وتصادف محمود ثانية، وهو يُطرد من حلبة الرقص، تلحق به، وفي ظلام الليل يدعوها لركوب فرسه، ومن دون ممهدات تستقر اللقطة التالية على قبلة شهوانية، يتبادلها الاثنان، سوف تكون الحدث الانقلابي في حياة عالمين مختلفين على خط المواجهة، لكن الضعف الكامن في التمهيد لقبلة الخصّمين، سوف يسحب نفسه على كل التفاصيل اللاحقة، فتبدو غير مقنعة، إذ ليس من المقبول في الفن مجرد الوصف، وافتراض الأثر، وافتعال الجرأة، بل المهارة تكمن في بلورة أفعال، تخطف مشاعر المتلقي وتحركها، وتجيب عن السؤال الجوهري في الفيلم، ما الذي دفع بهذين الكائنين المتنافرين إلى التجاذب؟ والغريب هنا، أن العمل بكليته مبني على الاستفاضة، فما هو سبب البتر والاختزال في الوصول إل لقطة القبلة؟ مع أنه من حيث المبدأ والمتعارف عليه، أية علاقة بين الثائر والتابع للنظام الحاكم، هي علاقة مشبوهة ومدانة أخلاقيا، ما لم تحمل مبررات كافية لقيامها.

 بغض النظر عن ثغرة الموقف والتوقيت في حدث المنطلق، فإن الشغف بين ريم ومحمود، يجد مبرراته المنطقية بالاستناد إلى مبدأ وحدة وصراع الأضداد، فالاختلاف والفضول في معرفة النقيض، باعث قوي لإشعال فتيل الرغبة وتصعيدها. هي امرأة جميلة، حرّة، متعلمة، صدامية، طموحة وناجحة في مجال عملها، ذات شخصية قوية، تمتلك تجربة وثقافة، تؤهلانها لمعرفة ما يدور من حولها، واتخاذ موقف واضح منه، لها إسهامها في الحراك المطلبي، تعيش على الطريقة الغربية، شقة صغيرة، كلب، وزوج ترغب في الانفصال عنه، وهو يصرّ على استمرار العلاقة الزوجية.

بهذا المعنى ريم شخصية اجتماعية ناضجة، متعددة الأوجه، قادرة على إنتاج حياتها، وإدارتها في الاتجاه الذي يناسب تطلعاتها. وهذا التركيب النفسي والذهني المتماسك، يجعلها قادرة على أخذ المبادرة، فحين تشعر بعاطفتها وتعاطفها إزاء محمود، تستدل على بيته، تحمل العلف لخيله، تنخرط في حل مشاكل أسرته، تتعرف على وسطه الاجتماعي، وتعمل على تغيير قناعات أولئك البسطاء، ممن تعتبرهم ضحايا تضليل السلطة الحاكمة، تخوض معركتها بثقة، مع أنها في كل موقف، تتعرض للإدانة وسوء الفهم من كافة الأطراف، المعارضين والمؤيدين للثورة.

على العكس من ذلك، محمود الرجل الممّشوق القوام، الجذاب، شخص أمي، يؤمن بالقضاء والقدر، متزوج وله طفلين، تقتصر تجربته الحياتية على ركوب الخيل، وطاعة أسياده من السيّاح، والمتنفّذين في المنطقة، من أجل إطعام عائلته وتدريس ولديه، وحين يُأمر بالنزول إلى ميدان التحرير، لعودة السياحة واستعادة مصدر رزقه، يصدّق ويلبي الأمر، وحين يسقط ويُضرب ويشعر بالإهانة وازدراء الناس له، يقرر أن يحمي ذاته،  بالعمل واشيا لدى الحاج عبد الله.

تتعرض العلاقة بين هذين النقيضين لحالات من المد والجزر، يقطعها حضور زوجة محمود فاطمة (ناهد السباعي)، المرأة الأمّية، الجميلة والمطيعة، التي تدرك بحدّسها الأنثوي، أن اهتمام الناشطة الاجتماعية بأسرتها، مصدره إعجابها برب الأسرة، ولن تعّترض على ذلك، بل سوف تعّرض على ريم ان تشاركها عشّ الزوجية، على اعتبار أن تعدد الزوجات من حقوق الرجل. وسوف تتعاطف مع الثورة، وتؤثر على شريكها، وتدفع به إلى ميدان التحرير، وحين يملؤه الحماس ويرفع قبضتيه هاتفا في مشهد الذروة، يكون أول ضحايا رصاص النظام.

وقد يكون نصر الله وقع في ثغرات عدة على مستوى ترتيب الأحداث في مسار الحبكة، أو على صعيد الاستفاضة في رصد بعض التفاصيل، ثغرات لم نعرفها في رصيده السابق، ربما تكون من مفّرزات المونتاج، لكنه في المقابل، سجّل مواطن قوته من خلال: بناء شخصيات مثيرة للاهتمام، وحوارات ذكية، وإدارة الممثلين باتجاء الأداء التلقائي والارتجال، وتصويب عدسة التصوير لالتقاط مشاهد في غاية الرهافة والعمق، وإلى ذلك ركّز على أهمية دور المرأة المصرية في الحراك الثوري، وجعلها بطلة التغيير، لأنها الأكثر تعرضا للقهر في مجتمع الاستبداد، كما أن مقولة الختام جاءت على قدر عال من الصدق: أتباع الطغاة هم أول ضحاياهم.


بيروت: تهامة الجندي

صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ 24 تشرين الثاني 2013

*"بعد الموقعة"، سيناريو: عمرو شامة، يسري نصر الله. إخراج: يسري نصر الله . إنتاج: شركة نيو سينشري والتلفزيون الفرنسي 2012، تمثيل: منة شلبي، باسم سمرة، ناهد السباعي، المدة: 116 دقيقة

*عُرض الفيلم في مركز "wake" ببيروت،  مساء 13/11/2013 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح