رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

"بعد عشرة أعوام أو أكثر- بينما حزب النور السلفي وحزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين يربحان الانتخابات التي بدأت، والأمن لا يزال يقتل وينهب في الشوارع، وفيالق الشرطة العسكرية من قواتنا المسلحة تسحل المتظاهرين وتجردهم من ملابسهم وتميتهم ضربًا، ثم تجر الجثث إلى أكوام الزبالة فضلاً عن قنصهم وتعذيبهم داخل المنشآت العامة- أصبحتُ أعرف أن الشر يبدأ من حيث يتصور الإنسان أنه بمعرفة أو عقيدة أو هوية، يمكنه أن يغيّر مجرى حياة سقطت على كتفه مثل حقيبة" (ص179).
والمقطع السابق يقع في سياق الصفحات الأخيرة من رواية "التّماسيح" للكاتب المصري يوسف رخا، لكن الرواية بحد ذاتها لا تتحدث عن ثورة المصريين، بقدر ما تحاول استشراف الظروف والمسببات التي أدت إلى حدوثها ومن ثمة إخفاقها في تحقيق مطالب الشارع المنتفض، ذلك من وجهة نظر شاعر ينتمي إلى جيل التسعينيات، يستعيد ذاكرة العقدين الأخيرين، ويعاين تجارب ومصائر أقرانه من النخب المثقفة على اعتبار أنها طليعة المجتمع المصري ومرآته التي بإمكانها أن تعكس السلبيات والإيجابيات، كما التشوهات والأزمات على اختلاف تجلياتها.
يبدأ الزمن الروائي في العشرين من حزيران 1997، وهو تاريخ مفصلي سوف تتقاطع في تضاعيفه واقعتان: من جهة انتحار المناضلة اليسارية رضوى عادل وهي في السادسة والأربعين من عمرها بعد أن أحبطها مآل الحركة الشيوعية وتقلبات الرفاق، ومن الجهة الأخرى ولادة حركة "التماسيح" للشعر المصري السري، أو كما يمكن أن يُقال ثنائية الموت والحياة، ومع ذلك فإن الرواية لن تقف عند هذه الثنائية، ولن تحتفي بتاريخ النضال أو حركة الشعر السري، كما يمكن أن يُخيّل للقارئ، بل سوف توغل في تعقب وتأويل ملابسات العلاقات المركّبة التي ربطت ما بين الشخصيات، سيما الأعضاء المؤسيين للحركة، وتحديدا العلاقات الحميمة مع الجنس الآخر على اعتبار أن الجسد لا يكذب: "كنت أعرف أن أجسادنا تدلّنا، تكشف لنا أسرارنا، وتملي علينا هويتنا الأصدق في الحياة، وأن هذا فضلها حتى بعد أن تفسد أو تشيخ" (ص166).
الراوي الملقب بالفيتس، وباولو الأشقر دائم الامتعاض، ونايف الأسمر الجميل كعمر الشريف، أسماء وهمية لثلاثة أصدقاء في العشرينات من أعمارهم أسسوا حركة "التماسيح" التي لم تستمر فعليا لأكثر من عام، ثلاثتهم كانوا من المتمردين الحانقين على واقعهم، يتعاطون المخدرات، وكانوا بمثابة "غرفة مغلقة مصنوعة من التطلع إلى الشعر أو حياة تشبه قصيدة" وكانوا أيضا "أكبر تماسيح البركة حجماً وأكثرها نشاطاً في اصطياد الثدييات الصغيرة الآتية للشرب ثم التناوب على قضمها بشهية لا تعرف الرحمة" ص (17-18). هؤلاء الشعراء سوف يقعون في هوى نساء متزوجات أكبر منهم عمرا: صبا الحقوقية المعروفة، نرجس الفنانة التشكيلية الجريئة ومون الشاعرة الغامضة، وسوف يكون لهؤلاء النسوة حكايات متشابهة وإن تباينت التفاصيل: "من تسلط أسرة فقيرة إلى إهانات ذوي اليد العليا في أماكن العمل المؤقت والفضاءات الثقافية أو شبقهم" (ص31) إلى رغبة في التحقق وإثبات الذات تفوق كل الرغبات، وتستغل كل الممّكنات، سوف تبدأ الصداقات والعلاقات الغرامية واعدة، وتنتهي جميعها بمزيج من الخيبة والمرارة مع بداية الألفية الثالثة، بعد أن عبرت شواطئ الفرح ومتع الجسد إلى محطات الخيانة والشجار والعنف.
هي شخصيات فاعلة بالمعنى الاجتماعي والثقافي، تتطلع إلى الانعتاق من تابوهاتها الاجتماعية، وتسعى إلى إنتاج وعي من نوع جديد، يحمل مؤثرات عصرها، تنعطف بالقارئ من خلال هواجسها وتجاربها الحياتية والإبداعية تارة نحو أسماء شعرية هامة مثل ألن جينزبرج، وأخرى نحو تيارات حديثة كـالـ "هيفي ميتال"وتجربة الأمن المصري في اعتقال عبدة الشيطان، وثالثة نحو نصوص جميلة من قبيل الذي كتبته علية عبد السلام سنة 1998: "أمام الله سأعترف /أن دموعي قريبة/ والحكام أوغاد/ وأن الحب مرض/ والناس شياطين صغيرة" (ص11) أو من قبيل القصيدة التي كتبتها مون في بداياتها: "اليوم أيضًا/ زهور الخشخاش الحمراء الفاقعة/ تتفتح داخل ملابس/ لا يراها سواك/ وأعلى من وشيش السيارات المسرعة في الخارج/ صوت إيديث بياف/ يخبرني أن هذا الوجع/ هو طفلك الذي لن ألده..." (ص21).
وهي أيضا شخصيات تنتمي إلى شبكة واسعة من الفعاليات الثقافية، وترتبط بأشخاص معروفين يظهرون بأسمائهم الحقيقية، ومع كل علاقة وتجربة كانت تفتح الباب على إشكالات اجتماعية ونفسية وسياسية، يعاني منها ليس فقط المجتمع المصري بل عموم المنطقة العربية، ليس أولها الكبت، وليس آخرها القمع وكم الأفواه، إشكالات أدت إلى وضع العصيّ في عجلات التغيير والإخفاق في نقل الذات والمحيط إلى مطارح أفضل: "كأن الأولوية ليست لتغيير الشيء قدر ما هي لإبقائه مشوها أو مكسورا" ص(149).
مع ذلك هنا لا يمكننا الحديث عن شخصيات روائية مكتملة لا بالمعنى التقليدي للكلمة ولا بمعناها الحداثي، كذلك هي الحال فيما يخص ترسيم المكان وبناء الحبكة وتشييد عمارتها، فالأحداث لا تكترث كثيرا بحيّز وقوعها، والتفاصيل لا تتوزع على فصول أو مشاهد أو عناوين، بل تندرج متتابعة في سياق أربعمئة وتسعة مقاطع بلا توقف أو استراحة، ما ينهك القارئ ويسلبه متعة التفكير في تضاعيف ما يقرأ، كأنه متن كُتب دفقة واحدة حتى اللهاث، يجتاز الأمكنة والأزمنة بلا تسلسل أو شكل محكوما بآلية التداعي وتناسل الأفكار التي قد تتكرر في أكثر من موضع وتبعث شيئا من الملل بالرغم من شعرية اللغة وعمق الدلالات.
ومع أن الرواية تنطق بضمير الأنا غير أن الراوي يسلك سلوك السارد الخارجي العليم مع أناه وبقية الشخوص، إذ يضعهم على مسافة من وعيه، كي تتضح الرؤية أكثر، وتفسح مجالا أوسع للتأمل والتأويل، لكنه وهو يفعل ذلك يقع في فخ أحكام القيمة القطعية والجائرة أحيانا، سيما فيما يتعلق بالشخصيات النسائية على الرغم من جماليات الصياغة: "بلا كلام أو حتى تفكير فهمنا أن ما نصدّره إلى المحيطين قناع، وأننا متميزون بالقدرة على ارتداء أقنعة من قبل أن نبلغ العشرين. وكان إنجازنا الحقيقي وإن لم ندركه وقتها أننا لم نخلط أبداً بين الأقنعة التي نرتديها ووجوهنا"... "إن نرجس نكتة، وصبا شعار، ومون كليشة" (ص90).
رواية خاصة بمذاقها وآليات تشكيلها، معظم شخوصها من المبدعين، ومعظم أحداثها وقعت بالفعل، لكن الأفكار والتأملات حول التجارب والوقائع العامة والخاصة هي البطل فيها والمحرّك الأساس، إنها أشبه بقراءة في محطات من سير شخصيات معروفة قضت نحبها أو ما زالت على قيد الحياة، أشبه برؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي، في زمن من الانقلابات المصيرية التي اختلفت إزاءها ردود أفعال البشر من المشاركة إلى الصمت وصولا إلى التأمل وإعادة تقييم ما عايشوه وعانوه في أزمنة الركود المطبق، وقد اختار الكاتب أن يكون من المتأملين المحبطين والمتشائمين:  "بعد عشرة أعوام -وأنا أتابع من بعيد تطورات ثورة انتظرناها ونحن لا نعرف أننا ننتظرها، وحين جاءت مارقة كقطار أخير ترتكتنا مشدوهين على رصيف المحطة- أفكر في كوننا كلنا أصبحنا حالة أو مأساة: إن بقيت لنا ذكرى، ستظل فحوى ذكرانا في فضائح الحب والموت والإنجاب. وهل كان هذا كله من أجل أن نكون مادة مناسبة لنميمة عدد أكبر قليلاً من الناس؟ أشعر بجسدي غارقاً في الحساء وأنا أتساءل: كلّ هذا؟" (ص180).

بيروت: تهامة الجندي
المستقبل، ملحق نوافذ 31 آذار 2013 

"التماسيح" رواية في  191ص قطع متوسط، المؤلف: يوسف رخا، الناشر: دار الساقي، بيروت 2013.

تعليقات

الأكثر قراءة

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح