ما الذي يحدث في سوريا؟ يتساءل البلغاريون

يبدو الموقف من الثورة السورية، غامضًا وملتبسًا بالنسبة لمعظم البلغار الذين التقيتهم، فلا يزال إرث الماضي، يعيش في مخيلتهم، حيث كان المعسكر الاشتراكي ينصب خيمته، وكانت سورية في إعلامهم، هي الدولة الحليفة، ذات النظام البعثي التقدمي، الذي يقف في جبهة وطنية، مع الحزب الشيوعي السوري، لمقارعة الامبريالية العالمية. وحيث ذهبت كل المحاولات سدى لإقناعهم، أن من يحكمنا طاغية، ملأ السجون بالمعارضين اليساريين قبل غيرهم. ومن حيث المبدأ لم يكن حافظ الأسد، يعترف أصلا بوجود سجناء رأي لديه، وحين انكشفت ملفات الاستبداد والفساد في عهده، جرى التسويق إعلاميًا لوريثه، أنه قائد المهمات الصعبة، الرجل المتنور، صاحب مشروع الانفتاح الاقتصادي والإصلاح السياسي، الذي سينقل البلد إلى بر الأمان، من دون هزَّات تُذكر.

إذن، ما الذي يحدث في سوريا، ولماذا هذه الحرب القذرة؟ تسألني صديقتي البلغارية إيرا، التي تتحدث العربية، والتي زارت وطني لمرات، في الفترة الانتقالية ما بين عهدي الأب والابن، ولمستْ الانفتاح بأم عينها، إبان "ربيع دمشق". أقول لها: تراجع الرجل عن وعوده بالإصلاح، لم تُلغَ حالة الطوارئ، ولم يصدر قانون الأحزاب، ولم تجرِ انتخابات نزيهة بعد انتهاء ولايته الأولى. استشرى الفساد، وامتلأت السجون من جديد بالمعارضين، فخرج السوريون للتظاهر السِّلمي، مطالبين بالحرية والكرامة، وقُتلوا برصاص النظام. تنظر إليَّ بعيون متشككة، وتسألني عن الإرهابيين الذين يحملون الأعلام السوداء، يجلدون ويذبحون الناس، وأجيب: هؤلاء ليس لهم علاقة بثورتنا، وتسألني: كيف؟.

"ما الذي يحدث في سوريا؟" سؤال سوف يوجهه لي، معظم البلغار الذين ألتقي بهم، الذين أعرفهم من قبل، والذين أتعرف إليهم لتوي، وسوف تتباين مواقفهم مما يجري، بغض النظر عن غموض المشهد بالنسبة لأغلبهم. صديقتي نوشا تقول: سوريا ليست ملكية خاصة لأحد، فليرحل، ماذا ينتظر؟. زوجة صديقي السوري آني، تعتقد أنها حرب مصالح الدول الكبرى، يدفع ثمنها الباهظ السوريون. بعيون متعاطفة تنظر إليَّ، الموظفة في غرفة التسجيل بالإذاعة البلغارية، وتقول: ينفطر قلبي كل صباح، حين أشاهد مركز اللاجئين السوريين، القريب من بيتي. ميلا تحسبني أتقاضى معونات مالية كبيرة، فتأخذ مني عمولة أكبر، مما تأخذ من غيري، لقاء مساعدتي في العثور على غرفة أسكنها، وصاحبة الغرفة مايا، تفاجئني بمعلوماتها عن جيش النظام والجيش الحر، بينما يطلب مني سائق التاكسي، ان أدعوه إلى بلدي الجميل.

أسمع وجهات نظر مختلفة حول الموضوع، البعض يرى أنها حرب من أجل السيطرة على منابع النفط ومصادر الطاقة، والبعض يعتقد أنها من أجل موقع سوريا الجيوسياسي الهام، وآخرون يتصورون أنها حرب أهلية، والكثير منهم على قناعة أنها حرب دينية، للقضاء على المسيحيين، ولا أحد يأتي على ذكر الثورة. ومن خلال متابعتي لوسائل الإعلام البلغارية لأكثر من شهر، وجدتُ أنها من النادر أن تتطرق للخبر السوري، وإذا ما تم تداوله، فهو على الأغلب ينحصر بمسألة اللاجئين والمعونات الإنسانية.

هذا اللُبس المعرفي، تفسره لي السيدة دينتسا ساتشِفا[1]، الخبيرة بشؤون اللاجئين: "على الرغم من الدفق الإعلامي الكبير، في كل ما يتعلق بالمسألة السورية، ثمة تعتيم يحدث حول حقيقة ما يجري، وطبيعة القوى المتصارعة، وثمة دعاية تقول، إن سوريا ستصبح دولة دينية، وهذا يحمل الناس على الخوف وعدم الثقة. ويساعد على هذا التعتيم الحاجز اللغوي، فالعربية ليست لغة واسعة الانتشار في بلغاريا، وليس بمقدور البلغار المهتمين، أن يعثروا على الوجهة الصحيحة، ويتخذوا الموقف الصائب، على العكس من الأزمة الأوكرانية مثلًا، حيث أغلب الناس يجيدون الروسية، وبإمكانهم معرفة الأخبار من مصادرها الأصلية".

يتباين الموقف من المسألة السورية، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل أيضًا على مستوى السياسة الخارجية للدولة البلغارية، تبعًا لتشكيلتها الحكومية. نيكولاي ملادينوف، وزير الخارجية السابق، يملك معرفة واسعة بشؤون الشرق الاوسط، كان مبعوث بلغاريا إلى العراق، ولديه وجهة نظره الخاصة في العلاقة مع دول العالم العربي، يعتقد أن التحوّل السلمي من الاشتراكية إلى الرأسمالية، الذي أنجزته بلغاريا، بالإمكان أن يصبح نموذجًا تحتذي به الدول الأخرى، وحين انطلقتْ الثورة السورية في عهده، أبدى موقفًا مؤيدًا للمتظاهرين السِّلميين، وأصر على تدخل الاتحاد الأوروبي، من أجل وقف عنف النظام،  والبدء بالإصلاحات الجذرية.

"حكومة أورشارسكي" قررت، أن تنتهج سياسة أكثر حيادية، بأن تنأى بنفسها، ولا تتخذ مواقف حادة، إزاء ما يحدث في سوريا. تلك الحكومة التي جلبت معها الكثير من الأزمات الاقتصادية، وتظاهر ضدها البلغار، مما اضطرها للاستقالة، في الرابع والعشرين من تموز الماضي، وبانتظار الحكومة المقبلة، التي سيجري انتخابها في الخامس من تشرين الأول/ اكتوبر القادم، لا أحد يمكنه تخمين أي الساسة سيصعدون، وأية سياسة خارجية سوف تتبعها التشكيلة الجديدة.

بانتظار ذاك اليوم، تعيش بلغاريا مرحلة صعبة على المستويين الاقتصادي والسياسي، وإذا كان أغلب الساسة السابقين، قد حددتهم توجهات، إما روسيا أو الولايات المتحدة، فإن أغلب المواطنين يفضلون المزيد من الأوّربة، والانفتاح على جميع الدول، من منظور الدفاع عن المصلحة الوطنية، ويتوقعون من الحكومة المقبلة، سياسة خارجية واضحة الملامح والمواقف، بعد أن تبين لهم، أن الحياد والانصياع لإرادة الآخرين، لم يخدم مصلحتهم في الاستقرار ورفع مستويات العيش.

للمزيد من الإطلاع على علاقة البلغار، بتطورات المسألة السورية، زرتُ السيدة دنيتسا ساتشفا في مكتبها، بعد أن تعرفتُ إليها في مقر "الجالية السورية الحرة". يلقبونها بملاك الثورة، فهي تدير منظمة "IntelDay Solutions" للعلاقات العامة والدعاية، ولديها فريق تطوعي، يهتم بقضايا اللاجئين، وقد بذلت أفضل ما بوسعها، لتقديم كل أشكال الدعم للسوريين الهاربين من بطش النظام، لا من موقف التعاطف الإنساني وحسب، بل من موقع العارف بدقائق الأمور على المستويين المحلي والعالمي.

سألتُها عن طبيعة الخدمات التي يقدِّمها المكتب الذي تديره، سيما ما يتعلق باللاجئين السوريين، أجابتْ: هناك الكثير من الإعلانات الكاذبة على الإنترنت، حول تأمين فرص العمل والإقامة للأجانب في بلغاريا، نرصد هذه الإعلانات، ونحاول تبيان زيفها، نهتم بقضايا الإتجار باللاجئين من الأطفال والنساء، واستغلالهم في أماكن العمل. نحن نهتم بالجانب المعلوماتي فقط، نستطلع الظواهر، ونضعها في تقارير موثقة، نصمم البوسترات، ونقيم الندوات، بغرض توعية الناس بحقوقهم، ونبيع خدماتنا للمؤسسات الحكومية والخاصة فقط، لكنها متاحة للعموم بالمجان.

أضافتْ دينتسا: نحن نتعاون مع "الجالية السورية الحرة"، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2011، بعد ذلك عملنا في مراكز إيواء السوريين، سيما في العام الماضي، حين تم استخدام الأسلحة الكيماوية، حيث دخل بلغاريا في أسبوع واحد، حوالي ألف وخمسمئة سوري، وحتى نهاية العام باتوا أكثر من ثمانية آلاف شخص. نجمع المعلومات حول احتياجات اللاجئين، بواسطة المتطوعين السوريين، الذين يتقنون إما اللغة البلغارية أو الإنكليزية، لكن للأسف أغلب دعمنا، لم يتعدَ تقديم الغذاء والألبسة والدواء.

بدأنا الحديث مع الحكومة، حول وضع برنامج وطني متكامل لقضايا الهجرة واللجوء، وكان من المفترض أن يصبح جاهزًا، منذ أواخر العام الماضي، حتى يتم تمويله من الاتحاد الأوروبي. كان هناك الكثير من النقاشات والمعارضين، وزير الداخلية ألقى بالمسؤولية على وزيرة الاقتصاد، وفي النهاية وافقت الحكومة على البرنامج، لكنه لا يزال حتى اليوم، وثيقة بلا خطة تنفيذية ولا ميزانية، تنتظر انعقاد الحكومة الجديدة بعد شهرين.

بالتزامن يبدأ الاتحاد الأوروبي، بتشكيل لجنة لمتابعة قضايا الهجرة واللجوء، وصياغة سياسة جديدة إزاء الشرق الأوسط، وعلى بلغاريا أن تنخرط في الأمر، لأن فشلها باحتواء أزمة اللاجئين على أراضيها، هو تعبير عن السياسة الفاشلة لكل الاتحاد الأوروبي، الذي أعطى الكثير من الأموال لتجاوز الأزمة الإنسانية، ولم يحدث أي تغيير على أوضاع اللاجئين، ما يعني أن الهبات المادية وحدها، ليست سياسة، بل ينبغي أن تقترن بأهداف أخرى.

"هل صادفتْ، ما يثير الريبة أو القلق، أثناء احتكاكها بالسوريين في مراكز الإيواء أو خارجها؟" قالتْ: كل لاجئ سوري دخل بلغاريا، عاش ظروفًا سيئة في البداية، وكان بحاجة إلى المساعدة، هل أساء بعضهم؟ لم أفكر بذلك، كانوا هلعين، وبينهم حوالي ثلاثة آلاف طفل، وهناك حوامل ومرضى، وثمة رجل توفي بالجلطة. كنتُ أفكر مع فريق المتطوعين، كيف نكون في أماكن توزيع المساعدات، حتى نتأكد من وصولها إلى المحتاجين، ودائمًا كان الاحتمال واردًا، أن يبقى أحدهم غير راضٍ عن عملنا.

البعض كان يأتي إلينا، نحن البلغار المتطوعين، ويخبرنا أن هذا السوري عميل، وذاك خائن، وهاك يعمل لجهة ما. ستون بالمئة من هذه الأقاويل، ليست حقيقية، مجرد إشاعات وأكاذيب، تشيع المزيد من الذعر بين أوساط اللاجئين، وهذا إشكال حقيقي يعيشه السوريون. نحن لا نملك أية معلومات عن حالات مشابهة، أو إساءات كبيرة، كان هناك القلائل من الأشخاص، الذين قاموا بالتحريض الديني أو السياسي، أو أرادوا جمع الأموال، والخروج بها من بلغاريا. أبلغناهم أن مثل هذه الأعمال غير مرغوب بها، وعالجنا الموضوع بسرعة، وأعتقد أنه من الطبيعي، أن نصادف مشاكل من هذا النوع في مراكز اللجوء.

فيما يتعلق بالمساعدات التي تُقدَّم للاجئ، بعد حصوله على الإقامة في بلغاريا، توضح دينتسا: مراكز اللجوء تفضل الاهتمام باللاجئين، قبل حصولهم على الإقامة، بعد ذلك تلقي بمسؤوليتهم على عاتق وزارة العمل. فكل لاجئ يحتاج كحد أدنى إلى ألف ليفا في الشهر، ما يعني أن كل ألف لاجئ، سيكلفنا مليون ليفا شهريًا، نحن بلد فقير، لا يمكننا تحمل عبء إسكان وإطعام آلاف اللاجئين، يمكن مساعدتهم بتقديم بعض المعونات.

تضيف: أكثر اللاجئين هنا، لا يرغبون في مزاولة الأعمال التي تُعرض عليهم، نتيجة لاختلاف مفاهيم العيش والعمل بين الثقافتيّن، ربة العائلة السورية عادة لا تعمل، أو تقوم بمهن خفيفة، طالما ان زوجها بإمكانه يعيل كامل أسرته، ومتوسط الدخل هنا في أفضل الحالات (حوالي 850 ليفا) لن يكفي الزوج لتحمل أعباء معيشة أسرته، لذلك يستنكف عن العمل، ويحلم بالانتقال إلى ألمانيا، أو أي دولة أخرى تمنح رواتب للاجئين، ولكن حتى ألمانيا، لا يمكنها ان تدفع مدى الحياة، على اللاجئين ان يتأقلموا مع ظروف الحياة الجديدة.

عرضنا على البعض الفلاحة، لكنهم أيضًا كانوا يرفضون، لأن أولادهم سيدرسون في قرية نائية، ولن يجدوا من يشرح لهم بالعربية المفردات البلغارية. نسبة أربعة عشر بالمئة من اللاجئين السوريين، لا يحملون سوى الشهادة الابتدائية، وسبعة بالمئة منهم أميين بالمطلق، ومن الصعب العثور على عمل لهؤلاء، أنا ساعدتُ البعض في إيجاد عمل لهم، لكن كانت لديهم كفاءات عالية. وفي الوقت الحاضر لدي عشرة شواغر في معمل لتغليف الشوكولا، براتب أربعمئة وخمسين ليفا، مع تأمين المواصلات، لكن ولا واحدة من النساء السوريات، ترغب في الالتحاق بهذا العمل.

"لماذا تساعدين السوريين؟" ابتسمتْ وقالت: حين كنت صغيرة، كانت تعيش بجوارنا عائلة سورية، ساعدتْ أمي في تربيتي، كانوا يدرسون هنا، وكانت لديهم إمكانية التسوق من "السوق الحرة" في ذاك الزمن، وكانوا يشترون لي الحلوى. لدي ذكريات مع السوريين منذ طفولتي، أتألم لهذا العدد الكبير من النازحين، الموزعين في كل مكان من الأرض، وأشعر أن من واجبي، أن أساعدهم في محنتهم، سيما الأطفال منهم. تعاطفي ليس فقط من الناحية الشخصية والإنسانية، سوريا بلد عريق جدًا، يعود تاريخه إلى سبعة آلاف سنة، بينما يعود التاريخ البلغاري إلى ألف وثلاثمئة عام. سوريا مهد الديانة المسيحية، وهي من أبدعت الأبجدية الأولى، يجب أن نحافظ على هذا البلد، أن نحمي هذه الثقافة العريقة، ونحمي السوريين.

"كيف ينظر عموم البلغار إلى المسألة السورية؟" سألتها، قالت: من وجهة نظري، يعتقد البلغار أن ما يحدث في سوريا، هو حرب دينية، وهم يخافون من هذه الحرب، ومن الموضوع السوري برمته، ولديهم تصور أن الإسلام دين خطير. حتى المتحمسين منهم لقضية النازحين السوريين، الذين يأتون إلى مكتبي، ويتركون لي بعض التبرعات، حين أعرض عليهم الذهاب معي إلى مراكز اللجوء، يخشون ويرفضون، والكثير منهم يقولون: نحن سعداء بما تقومين به، لكن ألا تخشين مخالطتهم؟.

في حين استطاعت المسيحية، أن تكرِّس صورتها كدين للسلام والمحبة، لا يزال الإسلام بالنسبة للكثيرين، هو دين التطرف والقتال. هذا لا يمكن أن يحله سوى المسلمين بأنفسهم، عليهم أن يثبتوا للعالم، أن صورة المرأة المغلقة بين جدران المنزل، وصورة الرجل المتعصب العنيف، ليست الصور الحقيقية للإسلام، الذي جاء رحمة للعالمين.

 

صوفيا: تهامة الجندي

صحيفة المستقل، ملحق "نوافذ" 10 آب 2014



[1] دنيتسا ساتشفا ناشطة مجتمع مدني وشخصية سياسية من مواليد صوفيا/بلغاريا 1973، تحمل شهادة في السياحة والعلاقات العامة، عضو في حزب "مواطنون من أجل التنمية الأوروبية في بلغاريا". أسست منظمة "إنتل دي سولوشنز" المستقلة عام 2001، وشغلت عدة مناصب هامة. 

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق