فادي طفيلي: بيروت مدينة يهيمن عليها شعور الانتظار


لسور بيروت القديمة سبعة أبواب، كانت تتحكم بمواقيت فتحها وإغلاقها سبع عائلات، تتولى حراسة مداخل المدينة، وفي مرحلة متأخرة من عمر السور أُضيفت البوابة الثامنة، أما بوابتها التاسعة -كما تُعرِّف عن نفسها- فهي البوابة المُتخيَّلة التي لم تكن، هي مجلة ثقافة مدينيّة، تواكب العمران بمضمون معرفي، يتناول أفكار العيش المديني وآدابه وفنونه وتواريخه واقتراحاته المستقبليّة. إصدار باللغتين العربية والإنكليزية، يتمحور حول ثيمة واحدة، يتكرر مرتين كلَّ عام، متيحًا أمام الكتَّاب والمشاركين في صناعته، الوقت الملائم لنتاج، يدمج البحث الأكاديمي المعمّق بالكتابة الإبداعية والنقدية والصحافية، ويغوص عميقاً في عصب المدينة وطبقاتها.
لبيروت أسماء كثيرة، أجملها "المدينة الإلهة" ربما لجبروت جعلها تنهض من رمادها، وتبقى بجمالها الآسر، رغم كل الكوارث والحروب التي حلّت بها... ربما لأصالة مكنتّها أن تخلط في مياه حضارتها الفينيقية الأم آثار الحضارات اللاحقة من البيزنطية إلى العثمانية... إذن لماذا الخيال والمتخيّل في حضرة وجود عنيد، طاغ، ابتكرته هذه الإلهة منذ آلاف السنين؟ سألت فادي طفيلي، رئيس تحرير "البوابة التاسعة"، وأنا أفتح  عددها الأول الصادر في خريف 2012 تحت ثيمة "المتخيَّل".
قال: "بيروت مرت بتجارب صعبة، دُمرت وأعيد بنائها، هناك ذاكرة ناقصة، مراجعات ضائعة عن تاريخها، دائما ثمة أمور لم تحدث، ثمة حالة انتظار لما سوف يكون، مدينة يهيمن عليها الشعور بالانتظار، كيف ستتحول، كيف تعيد ترميم ذاتها وإحياء ذاكرتها، كيف تتخيل نفسها في المستقبل؟ من هنا وُلدت فكرة (المتخيّل) كعنوان مناسب للعدد الأول، فكرة مفتوحة تحتمل الاختبار، توحي بالتأمل بأحوال لم تظهر، لم تكتمل بعد، مثل وسط المدينة الذي مازلنا ننتظر اكتماله منذ سنين".
حواري مع فادي أجريته في مقر "البوابة التاسعة" وسط بيروت، وفي الطريق المؤدية إلى المقرّ، كانت مداخل ساحة النجمة مغلقة بالعوازل المعدنية وقوات حفظ النظام، لمنع المحتجين على تمديد المجلس النيابي من الوصول إليها، والاعتصام فيها، كنت أجهل المكان وسبب إغلاقه، لكن المفارقة أدركتني حين علمت أن العدد الجديد من المجلة يحمل ثيمة "الساحة"، ويدور حول معانيها وتجاربها كمكان عام لاجتماع البشر، هل هي إيحاءات "الربيع العربي" في لبنان، أم ساحات التظاهر والقتل منذ أكثر من عامين في سوريا؟ سألت، وقال فادي: "ليس بتلك الصيغة المباشرة من الربط، لكن الحدث جعلنا نفكر، كيف حاول الناس بطرق مختلفة أن يعيدوا بناء العلاقة مع المكان العام، علاقة التفاعل معه، التمرد عليه، إعادة إثبات الوجود فيه، تبنيه؟ إننا نقارب الموضوع بمواد هادئة، متأنية، تأملية، تتناول المضامين والخلفيات".
صفحات المجلة تبدأ من معنى الساحة اللغوي، ودلالاتها كفضاء يتوسط كتل العمران، فبحسب الافتتاحية: تربط اللغة العربية الكلمة بالسيولة والجريان والتنقّل على وجه أرض مستوية. فالسَّيحُ، العبارة الأصل التي اشتُقّ منها اسم الساحة، على ما يذهب لسان العرب، هو الماءُ الظاهر الجاري على وجه الأرض. والسياحة هي الذهاب في الأرض للعبادة والترهّب. ولا يبتعدُ الإسم العربيّ الشائع الآخر للساحة، أيّ الميدان، كثيرًا عن هذه المعاني. إذ إنّه مشتقٌّ من مَيْد التي لها معنيان، أحدهما يدلّ على حركةٍ في الشيء، والثاني على نفعٍ وعطاء. فإذا ماد الشيء فقد تحرّك ومال، أو أنّه زاغ وزكا. وإذا أمدَّ فلانٌ فلانًا بشيء فقد أعطاه إيّاه. والمَيَدَانُ هو الاضطراب الذي يحلّ بأطراف الأرض إذ تجري وتتسابق الخيول عليها... وقد غدا الميْدَانُ، مع كسر ميمه وتسكين يائه، اسما لتلك الفسحة التي كانت تُعرض الخيول فيها وتُستعرض مهارات الفروسيّة. أمّا موقع الميدان الوسطيّ في النموذج المدينيّ "العربيّ" - "الإسلاميّ" فَفَرضه موقع مساكن أصحاب المقامات والأعضاء البارزين في الأرستقراطيّة العسكريّة المرتبطين بالحاكم والسلطة. خصوصًا في الحقبة المملوكيّة في مصر وسوريا،. وقد تجاورت تلك المساحات، وتضافرت مع ما تطلبته الصروحُ الدينيّة المركزيّة في الأوساط من فسحات مستوية، ومقارُّ الحكم من باحات عروض واستقبالات.
مثل سابقه المتخيّل، يضم العدد الجديد الأبواب الثابتة ذاتها، التي تبدأ بـ"المرويات"، وهو باب مخصص لكتابة فيها نوع من السردية الروائية، كما قال لي فادي، مقاربات فيها تحليل شخصي وحكايا حول أمكنة تفيد ثيمة العدد، باب لكتابة العلاقة بالمكان من المنظور الشخصي، تجميع قصص المكان، وتأليف سيرته روائيا بالتقاطع مع السيرة الشخصية. مثلا مقال غوارنا فويزيتش شيبرد "الحضارة في مواجهة الابتذال" يستعرض سيرة الأمكنة العامة في بلغراد خلال حقبة ميلوسوفيتش، كيف كان يتعامل مع المكان، كيف أنه لم يفرض سلطته على الساحات والعمران، فقد كانت مشاريعه إقليمية، ودكتاتوريته موجهة ليس لصربيا، بل لمنطقة البلقان، حضوره في المدينة كان خفيا، ليس على شكل تماثيل وصور ستالينية، بل سلطة خفية داخل المؤسسات، وصور المقال حصرية بالمجلة، التقطتها عدسة زيا جافيتش، مصور من سرايفو.
وفي ذات السياق اقترح طارق أبي سمرا الكتابة عن "ساحة الكولا" وقام زيا بتصويرها، ساحة عامة لا تملك أيا من مواصفات الساحات، وتدعى باسم معمل لم يعد موجودا، لكن أحوال بيروت المستجدة افترضت ولادة هذه الساحة، كونها أصبحت أهم مركز في المدينة لوسائط النقل العامة، بعد موت ساحة البرج.
باب "خطط" يشرف عليه تود رايس، وهو مخصص للأبحاث الأكاديمية، وفيه نقرأ عن التطور الديمغرافي لميدان التحرير، المساحة الأكثر شهرة في القاهرة، والمُثقلة بالإيحاءات السياسيّة، لم تتقيّد بمخطّط محدّد، بل اكتسبت دلالتها عبر تراكم تدريجيّ للمعاني المكانيّة والاقتصاديّة التي يرصدها خالد أدهم في مقالته "منعزل مائي، طرف، ثم مركز"، مع مجموعة من الخرائط أعاد رسمها أنطوان غانم لقدمها وعدم صلاحيتها للنشر، أما مقالة لاريسا تشومياك "مشاهد من السلطة" فهي ترصد لحظات التظاهر والتنظيم التي سبقت مشهد الوقائع الذي نقله الإعلام عن الثورة التونسيّة، لحظات مهّدت الطريق أمام التونسيين للعودة إلى استرداد الأمكنة العامة، من دون تجاهل السؤال عن مدى جدية هذا الاسترداد.
"محاورة" باب يُحادث شخصية لها علاقة بتطوير المدينة، وفي العدد الحالي أجرى تود رايس مقابلة مع المعماري المصري عبد الرحمن مخلوف، الذي أسهم في وضع أول مخطط معماري شامل لمدن السعودية، وأسهم في تصميم مشاريع عمرانية في القاهرة وأبو ظبي وباقي دول الخليج، إنها خبرة رجل يبلغ عامه التاسع والثمانين.
"المطوّف" باب يفرد مساحته لنص كاتب ينزع إلى التنقل في الأمكنة بلا هدف، ونظرة المتسكع حول المكان، كتبها هذه المرة وسام سعادة تحت عنوان "مكان الزمن الدائري" عن ساحة كوناوت في العاصمة الهندية نيودلهي: "هذه الساحة بالذات، هي مكانٌ للوقت. الوقتُ يبيتُ فيها ويتخزّن... كوناوت بدائرتيها، أو تاجَيها، هي مساحة موسّعة للطواف، لكنها أيضًا مجموعة مداخل ومخارج للضجر". وأوضح لي فادي: أن للكاتب علاقة شبه فلسفية صوفية مع الهند، وأن نصه يتأمل بمعنى الدائرة، ويترافق مع فيلم فيديو صوّره زيا، يُعرض على موقع المجلة الإلكتروني.
باب "كتابات" يجمع قصصا قصيرة، تسرد سير الأمكنة، فيه كتب خالد خليفة عن حلب: "ساحة التحرير القاهريّة في أيّامها التي لم تتجاوز العشرين، أعادت الحلم إلى الهياكل العظميّة. لحظة سقوط مبارك منحت السوريين أملا بإمكانيّة التغيير. احتفلنا لأيّام عدّة. رقصنا وغنّينا بصوت عالٍ من دون خوف". وكتب فادي طفيلي عن حادثة تتعلق بموت سريري لساحة ريفية، بعد أن تفككت بنية الضيعة بشكل كامل، وفقدت وظيفتها: "اضطراب العالم المحجوب في جذور الساحة، تأكّد في الليل بعد ذلك النهار التشرينيّ الغباري الطويل المشمس. إذ بدأ الليل بومضات فوانيس صغيرة، تشرقط في محيط بيت آل الحلو، البادي لنا كتلة سوداء في وهج القمر".
"مراجعات" باب يقدّم مقالات نقدية وعروض كتب تتناول الفنون والأمكنة العامة بفكر مديني، من أمثلتها مراجعة كتاب الباحث الأردني محمد الأسد "العمارة والتمدين المعاصرين في الشرق الأوسط"، أما ملاحق العدد الجديد، فهي أربعة: الأول "أرقام" بمثابة وثيقة رقمية حول مدينتي سبتا ومليلة على البحر الأبيض المتوسط، أو ساحتي التواصل بين المغرب واسبانيا، شمال أفريقيا وأوربا، والملحق من إعداد عزيزة الشاعوني وآدم بيرن وماني تبريزي، فيه تحليل بالأرقام والرسوم عن زوار المدينتين، ماذا يفعلون، كم يبلغ مستوى التفاعل وحجم أعمال التبادل التجاري، كم يؤثر العامل الأمني على حياة الناس؟ الاقتراحات المستقبلية لزيادة التواصل بين الطرفين، من مثال عقد اتفاقية لتحويل الساحتين إلى مناطق تجارة حرة.
ملحق "اسكتش" مقاربة فنية للديسكو، نفذتها صبا عنّاب، مستلهمة تجربة المعماريين الراديكاليين في إيطاليا أيام الستينات، ممن كانوا يواجهون معضلة سيطرة الدولة على الساحات العامة، فحلموا بمكان عام جديد يختبئ من السلطة، مكان تحت الأرض، ديسكو يجمع الناس ليلا مع المشروبات الروحية والحرية والموسيقى، ساحة مغطّاة بدل الساحة المكشوفة، أصبحت عنوانا للحركات البديلة، الفوضوية والهيبية، لكنها مع الوقت خضعت لمعايير سلطة من نوع جديد، وفي التصميم نرى انتقال المكان وتحولاته من السطح إلى الداخل، نرى عزلة الكائن البشري في بحثه عن الحرية، رحلة طويلة تنضوي على مقدار كبير من الوحدة والبحث في الذات، ربما توصله إلى الاكتشاف أن المكان العام يكمن في داخله.
في الملحق الثالث "وثائق" يعرض جورج عربيد ثلاثة مشاريع معماريّة، شاركت في مسابقة تصميم المتحف الوطني اللبناني في عشرينيات القرن الماضي، زمن البحث القلق عن الهويّة، الذي مثلت العمارة أحد وجوهه، وتصاميم المتحف انطلقت من فكرة أن لبنان ساحة للحضارات، مشروع الأسد الذي فاز بالمسابقة، مصمّم على الطريقة الفرعونية، "عنترة" مسّتمد من تراث جبل لبنان، و "ألما" يحاكي الطراز العربي.
"أرصاد" ملحق أخير، أعدته ليّان الغصيّن، يستعرض توجهات الكويتيين لتعزيز حضورهم في الأمكنة العامة، بعضهم اقترح فسحات بديلة للاجتماع انطلاقا من مبدأ تحديث الديوانية، وهي منتدى أسبوعي للنقاش السياسي والتجمّع، وسعى أكاديميّون إلى توثيق مراحل التطوير العمراني الكويتية وتحليلها، ورصدوا أثر التغيّرات المدينيّة في الوعي العام. فنّانون آخرون اقترحوا تغيير وجه الكويت، فزرعوها بمعالم وتضاريس خياليّة، تدعو إلى أشكال جديدة من المشاركة في المكان العام.
بهذا تنتهي صفحات "البوابة التاسعة" وأول ما يستوقف القارئ ذلك السجال الذي تقيمه بين فضاءات مدينّية متباينة، تعكس وجهات نظر ثقافية، تتشابه حينا، وتفترق في كثير من الأحيان، وفي كل الأحوال تحيلنا إلى تجارب إنسانية حية، تطرح أسئلتها الفارقة حول علاقة الذات بمكان عيشها الخاص والعام، أسئلة يقود تأملها بالضرورة إلى ارتقاء حياة المدينة، وأنماط التواصل والتفاعل والتعايش بين البشر، واهتمام فادي طفيلي بفضاء المدن، الذي جعله يطلق شرارة البدء في صياغة مشروع المجلة، هو اهتمام فطري المنشأ، عزّزته دراسته الجامعية لهندسة العمارة الداخلية، ورسالته الأكاديمية حول أثر المبشّرين الأمريكان على تحديث بيروت في القرن التاسع عشر، وعلى حد تفسيره: المكان محفّز قوي للكتابة، للبحث، لنبش الذات والسير، وللتفكير بالانتماء والهوية.
أنهيت حواري، وخرجت من مبنى "سوليدير" الشركة التي تبنت تمويل إصدار "البوابة التاسعة" كمشروع ثقافي أصيل، يتماشى مع اهتمامها في إعادة إعمار وسط بيروت. رحت أتسكع في الشوارع، بين المقاهي والمحّال التجارية والمباني التي تحضن حقب التاريخ القديم والحديث، أمشي على رصيف المرفأ الجديد، أتأمل فضاء الانتظار... وفي طريق العودة إلى مكان عيشي المؤقت، كانت فرق الموسيقا، تتوزع الساحات، وتستعد لإحياء يومها العالمي، وكان الشبان والشابات يتوافدون، ويفترشون الارض للمشاركة في الاحتفال، وعلى الضفة الأخرى كان المتظاهرون، يرفعون شعارات التنديد، ويحاولون اجتياز الأسلاك الشائكة ودخول ساحة النجمة.

بيروت: تهامة الجندي
المستقبل، ملحق نوافذ 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عدنان الزراعي.. في انتظار وعد السراب

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟