للإجرام أسماء مختلفة ووجه واحد

يوم السادس والعشرين من أيلول نفى الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية استهداف المناطق السكنية خلال الحملة العسكرية التي بدأتها الطائرات الحربية السورية والروسية على محافظة إدلب قبل أسبوع من إدلائه بالتصريح، وأكد أن الغارات الجوية تطال فقط مواقع الإرهابيين من مستودعات الذخيرة والمدرعات وورش التفخيخ وجميعها بعيدة عن الأماكن الآهلة بالمدنيين، وهذه ليست المرة الأولى التي يضلل فيها المسؤولون الروس الرأي العام العالمي، فقد أثبتت الوقائع والتحريات أن لا وجود لمقرات عسكرية أو مخازن أسلحة تابعة للفصائل الإسلامية المتشددة في الأماكن المستهدفة، وأنه لم يجرِ تحذير المدنيين قبل بدء القصف كما يقتضي القانون الدولي.

وبحسب تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فقد بلغت حصيلة الموت أثناء الحملة العسكرية السورية الروسية على إدلب مابين 19-27 أيلول ما لا يقل عن 714 غارة جوية تخللها إلقاء 13 برميلًا متفجرًا، أودت بحياة 137 شخصًا، بينهم 23 طفلًا و24 سيدة و52 مقاتلًا، بينما كانت حصيلة الدمار العشرات من المرافق المدنية، أبرزها محطتيّ تحويل الطاقة الكهربائية وست مدارس وعشرة مستشفيات وستة عشر مركزًا تابعًا لفرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء)، إضافة إلى قصف بعض مراكز الفصائل المعارضة التي كانت أرسلت إحداثيات مقراتها إلى الحكومة الروسية لضمان سلامتها.
ليس ثمة ما يبرر الحصيلة الدموية من أرواح المدنيين والمنشآت الحيوية سوى أنها جرائم حرب موصوفة ودامغة بكل المعايير الدولية، وقعت في محافظة حدودية، خرجت عن سلطة النظام منذ عام 2015، وأضحت ملاذًا لحوالي ثلاثة مليون مهجرًا قسريًا من حمص وحماه وريف دمشق وغيرها من المناطق السورية المنكوبة، ثم دخلت مؤخرا اتفاقية خفض التوتر بضمانة الروس أنفسهم، وكانت واحدة من المدن التي احتجت على سلطة "هيئة تحرير الشام" بكل الوسائل السلمية.
ولم تقتصر مجازر الغارات الجوية عند هذا الحد، بل امتدت إلى بقية المناطق المحررة المشمولة باتفاقيات خفض التصعيد في أرياف إدلب وحلب وحمص والغوطة الشرقية ودير الزور والرقة، مستهدفة منازل المدنيين والأسواق العامة والمراكز الطبية، بحيث أضافت إلى المعطيات السابقة مقتل ما لا يقل عن مئة وثلاثة أشخاص من المدنيين، بينهم عائلات بأكملها خلال اليومين الأخيرين من شهر أيلول، بدلًا من العمل على تنفيذ بنود الاتفاق من وقف كامل للقتال، وإطلاق سراح المخطوفين والمعتقلين لدى جميع الأطراف المتصارعة، وإدخال المساعدات الإنسانية، وهو ما أثار غضب الناشطين السورين على مواقع التواصل الاجتماعي وجعلهم يطلقون حملة "روسيا ضامن الموت".
موقف الحكومة الروسية المعادي لتطلعات الشعب السوري بالحرية والكرامة، والداعم للنظام بكل الوسائل لم يرتبط بظهور "داعش" و"النصرة"، ولا بانتشار العمليات الإرهابية في العالم، إنما هو موقف ثابت أسفر عن نفسه منذ بداية الثورة السورية  بانتهاج سياسة الضغط على المعارضة للتفاوض مع نظام الأسد دونما شروط مسبقة، في حين كان النظام يفتح نيرانه على صدور المتظاهرين السلميين، ويزج بالعشرات منهم يوميًا في معتقلاته، وكان رأس النظام يصفهم بالجراثيم التي ينبغي أن تُباد.
لم يقتصر الدعم الروسي لنظام الأسد على المستوى الإعلامي والدبلوماسي فقط، وعلى حمايته في مجلس الأمن باستخدام الفيتو ضد أي قرار دولي يصب في صالح حماية الشعب السوري، بل تعدى ذلك إلى التسليح والدعم الاقتصادي، وحين لم تنجح كل الأشكال السابقة في إخماد الثورة السورية، دخلت القوات العسكرية الروسية الحرب بشكل رسمي في الثلاثين من أيلول 2015 تحت ذريعة مكافحة الإرهاب الداعشي، غير أن واقع الحال يثبت أنها تشن حربًا ضارية ضد مقرات المعارضة المعتدلة والجيش الحر، وتستهدف المناطق السكنية والمنشآت المدنية في المناطق المحررة، وبفضلها استعاد النظام السوري سيطرته على حلب.
هذا ما يؤكده تقرير روسي صدر حديثًا ونشره موقع "سبوتنيك"، حيث يذكر أن "مهمة القوات الروسية المسلحة في سوريا هي أكبر المهام في الخارج، تم خلالها اختبار 162 نموذجا من الأسلحة، وبفضلها تمكنت دمشق من تحرير 90 بالمئة من الأراضي" وما لم يذكره التقرير أن حصيلة ضحايا اختبار الأسلحة الروسية خلال عاميّن من بدء المهمة، كانت مقتل 5233 مدنيًا من السوريين بحسب "تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
منذ تدخلها العسكري المباشر اخترقت حكومة بوتين إدعاءاتها بالدفاع عن سيادة الدولة السورية، وباتت تتصرف بوصفها محتل فعلي يسعى للبقاء طويلًا في البلد، فهي التي تخطط للمعارك وتبادر بإطلاق الأوامر والتصريحات على المستوى الدولي، وهي التي تهندس موجات التضليل الإعلامي وتمسك بمفاتيح التفاوض وترعى الهدن والاتفاقيات، وهي من تتعهد بمشاريع الإعمار القادمة بعد القضاء على المعارضة السلمية والمسلحة، وقد توجت سلوكها الاحتلالي بالاحتفال بيوم البحرية الروسية في سوريا، وبالمشاركة في تدشين نصب شهداء الجيش الروسي والسوري في حلب بمناسبة الذكرى الثانية لدخول القوات الروسية المسلحة.
لم تكن روسيا وحدها من تنادت لدعم نظام الأسد في معركته الدموية ضد شعب أعزل، بل حذت حذوها إيران ومليشيات حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية منذ بداية الاحتجاجات السلمية، لكن ما يميز الدعم الروسي هو خبرته الطويلة التي ورثها عن حقبة الاتحاد السوفيتي في تثبيت دعائم الدكتاتوريات الشمولية وضرب المعارضة لاسيما في سوريا، ولم تكن لتستمر معارك كل هؤلاء ضد الثورة السورية لسبع سنين، لو لم تكن ثورة شعب أصيل صمم بمختلف مكوناته على نيل حريته، بالرغم من الصمت الدولي على جرائم الإبادة والتهجير التي تُرتكب بحقه بلا رادع أو ضمير، وجميعها يثبت أن للإجرام أسماء مختلفة ووجه واحد.

تهامة الجندي
جيرون 2 تشرين الأول 2017 الرابط

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"