محمد خلف: لن تنتهي صراعات العرب قبل فصل الدين عن الدولة



في ملتقى المعماريين بصوفيا، وفي فضائه المفتوح على زرقة السماء وأشعة الشمس الدافئة قابلت الإعلامي العراقي البلغاري محمد خلف، المعروف بقلمه الحر، الجريء، وتجربته المهنية المديدة التي تزيد على الأربعين عامًا، عمل خلالها في العديد من الدوريات العربية والبلغارية الهامة، وحقق الكثير من النجاحات، ونال نصيبه من العداوات والمضايقات لدفاعه عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وُلد محمد خلف في بعقوبة عام 1950، ونال إجازة الأدب العربي في جامعة بغداد، وكان يعمل في صحيفة "الجمهورية" حين صدر قرار بفصله هو ومجموعة من زملائه لعدم انتسابهم إلى حزب "البعث"، بينهم الراحل سعود الناصري ومظهر عارف والدكتورة سلوى زكو والشاعر خالد الحلي، ثم ما لبث الأمن أن بدأ باعتقالهم واحدًا بعد الآخر.

كان ذلك عام 1978، وأدرك محمد أنه بات في خطر وعليه مغادرة البلد، وبفضل الحظ وأصدقائه استطاع خلال أيام تأمين مهمة لتغطية مهرجان بلوفديف مع قبول لدراسة الدكتوراه في بلغاريا. اتجه وحيدًا إلى المطار، وهناك استدعاه الأمن لتشابه اسمه مع أحد المطلوبين، ثم سمح له بالمغادرة، لكن قلبه ظل يرتجف خوفًا طيلة الرحلة خشية أن يعيدوه إلى العراق، ولم تفارقه كوابيس الملاحقة والاعتقال إلا بعد مضي نصف عام في بلغاريا، كما ذكر لي.
كيف كانت بداياته في البلد الغريب؟ سألته، قال: كنت أتعلم اللغة البلغارية بسرعة، وكان الحظ يحالفني ويجمعني ببلغار يفتحون لي قلوبهم وبيوتهم، وبفضل البروفسور نيكولا رايتشف، أستاذي الذي أشرف على أطروحتي في الدكتوراه، وكان حينها عميد كلية الصحافة، بفضله صار لي مكتبًا في الكلية، وبدأت أتعرف على الأساتذة، ووضعت مادة الصحافة العربية وقمت بتدريسها. ثم رحت أرسل مقالات ثقافية عن بلغاريا لصحيفة "اليسار العربي"، بعدها أصبحت مراسلًا لصحيفة "الوطن"، وتم اعتمادي في وزارة الخارجية كمراسل ومُنحت الهوية الصحفية، وهذا مهد لي الطريق لحضور المناسبات الرسمية وتوسيع شبكة علاقاتي، وبمناسبة مرور 1300 سنة على قيام الدولة البلغارية عام 1981 مُنحتُ شهادة تقدير لمتابعاتي عن الثقافة في بلغاريا.
لم تقتصر كتاباته على العربية، صار يكتب بالبلغارية، وينشر مقالاته في الصحف المحلية، وعن الموضوعات التي كان يتطرق إليها عمومًا، يقول خلف: "بدأت أكتب عن الإصدارات العربية، وعن الأكراد، وكانت الموضوعات التي يمكن تناولها محدودة جدًا، تقتصر على الثقافة وتلك التي تتناسب مع السياسية الرسمية للدولة، وأي خروج عن ذلك كان يعرض الصحفي إلى الكثير من المشاكل".
ذكر لي محمد أنه في عام 1988 استُدعي من قبل الأمن وهُدد بالترحيل إثر مشاركته في مؤتمر صحفي حول تغيير أسماء المسلمين البلغار وتهجيرهم، وأضاف: هذه الحادثة ولدت لدي قناعة أن النظام الشيوعي لا يختلف عن نظام صدام حسين وباقي الأنظمة العربية الديكتاتورية، لهذا حين بدأ المثقفون البلغار ينتقدون علانية، كنت معهم ومع كل الديمقراطيين في ساحة التظاهر وحول موائد الحوار المستديرة، وأجريت مقابلة مع زعيم القوى الديمقراطية جيليو جيليف، ونُشرت المقابلة في صحيفة "الوطن"، فيما بعد أصبح جيليف أول رئيس ديمقراطي منتخب في بلغاريا، وهو من منحني الجنسية البلغارية عام 1994.
كيف انعكس المناخ الديمقراطي على الإعلام؟ سألته، قال: "انفتحت الموضوعات، وأصبحت بلغاريا محط أنظار العالم، وصرت اكتب بحرية، وفي عام 1997 قمت بتغطية المظاهرات الاحتجاجية لصالح فضائية أبو ظبي، ثم توسعت مساحة الدول التي أكتب عنها لتشمل منطقة البلقان التي دخلت في حروب مدمرة بعد انهيار الفيدرالية اليوغسلافية، كما أُتيحت لي فرصة تغطية الحرب في كوسوفو، بعدها صرت أتناول القضايا في عموم دول الاتحاد الاوروبي. لكن المضايقات لم تنتهِ في العهد الديمقراطي، تغير الأسلوب فقط، لأن القوانين الديمقراطية لا تسمح بتوقيف الصحفي أكثر من يوم، ولا تسمح بتهديده بالترحيل أو سحب الجنسية، هذا يحتاج إلى قرار محكمة، ويمكن الرجوع إلى المحكمة الأوربية للفصل في القضية". وذكر لي أنه سبق وهُدد بأطفاله وبتلفيق ملف أمني له إثر نشره لأخبار سياسية حساسة.
بعد سقوط صدام انتدبه تلفزيون أوربا لتغطية الأحداث في العراق، وأنتج فيلمًا عنه بعنوان "عودة محمد". فيما بعد قام خلف بإعداد وكتابة سيناريو فيلم "دُفنوا أحياء" عن المقابر الجماعية، وفيلم "كاكا حمه" عن عائلة كوردية هُجرت قسرًا، ونال الفيلمان جائزة مهرجان الأفلام الوثائقية في بلغاريا عام 2005. وحول مشاعره وانطباعاته عن تلك التجربة يقول: حين نزلت من الطائرة بكيت، وقبلت أرض المطار، لكني حين وصلت بغداد وجدتها خرابًا. رأيت أشخاصًا يُقتلون ويُرمون بالشاحنات، والتقيت بمن يدافع عن صدام لأنه مسلم، وحين زرت أسرتي كانت كل أخواتي محجبات، حينها أدركت أن تركة صدام ثقيلة، وستستمر طويلًا.
*كيف تفسر هذا الارتداد في المشروع الديمقراطي؟
**الانهيارات بعد سقوط صدام، تشبه الانهيارات في دول البلقان، ومن بعدها الارتدادات التي حصلت داخل ثورات "الربيع العربي". جميعها نتاج حكم الدكتاتوريات لعقود طويلة وصمت الغرب عنها، وفي مرحلة سابقة اعترفت كونداليزا رايس في محاضرة لها بجامعة القاهرة: أن الحكومات الأمريكية دعمت أنظمة الشرق الأوسط الديكتاتورية طيلة ستين سنة حفاظًا على الاستقرار وخوفًا من تداعيات الانهيارات، متجاهلة قضيتيّ الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكنها اكتشفت خطأها بعد الحادي عشر من أيلول. وكتب ريتشارد هاس الذي كان آنذاك مدير قسم التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الاميركية: من الآن فصاعدًا سوف تدعم الولايات المتحدة كل التحركات الديمقراطية في المنطقة، حتى لو أتت بأحزاب إلى السلطة ليست على ذوقنا.
*لماذا إذن تخلت الولايات المتحدة عن دعم ثورة الشعب السوري؟
**لا مثيل لمأساة الشعب السوري، تُرك وحيدًا لمصيره بتواطؤ إقليمي ودولي. القضية السورية أكبر وأعقد بكثير من قضية العراق، وتعقيدها يعود إلى الانكفاء الأمريكي عن الشرق الأوسط مع رئاسة أوباما، وقراره بالخروج من العراق من دون ترك ولو قوة محدودة، ما أدى إلى إطلاق يد إيران في المنطقة بلا رادع نتيجة لضعف العرب، كذلك التدخلات الخليجية والإقليمية في الثورة السورية التي أسهمت في عسكرتها وأسلمتها، وطبعًا لا ننسى أن النظام السوري يتحمل المسؤولية الأساسية في كل ما حدث، فهو من أراد تحويل الثورة منذ بدايتها إلى حركة جهادية، وما قام به معروف للجميع.
الغرب فتح ثغرة لإطلاق يد روسيا وإيران، خوفًا من أن يؤدي انهيار نظام الأسد إلى سيطرة الجهاديين، مثلما حدث في العراق، لكنه تناسى ان كل ما حدث في العراق وفي أفغانستان أيضًا، حدث بسبب تدخل إيران، فهي التي تدعم الميليشيات الشيعية المسلحة، وتتعاون مع طالبان وداعش، وتستثمر في العالم العربي لزرع الجماعات الشيعية المسلحة من لبنان إلى اليمن فالمغرب وتونس، وهذه الجماعات هي من تزرع القنابل للغرب في كل مكان.
بشار الأسد أعطى الشرعية السياسية والعسكرية لبقاء الإيرانيين في سوريا، واعتقد ان هذا حدث بترتيب مع روسيا، فبوتين يدعم إيران، ويدعم كذلك المجموعات النازية الجديدة والنزعات العنصرية، ويسعى لتفكيك الاتحاد الأوروبي انتقامًا لسقوط الاتحاد السوفيتي.
*كيف تنظر إلى فكرة الدولة القومية الكوردية في ظل العولمة والاندماجات الكبرى؟
**هذا عصر الهويات الاتنية والدينية، أو ما تحدث عنه أمين معلوف منذ زمن في كتابه "الهويات القاتلة"، فمع التطلع نحو العولمة وانهيار الجدران، بدأت كل المجتمعات والإتنيات تبحث عن حقوقها وتطالب بها، واتضح أن أصعب ما يمكن الوصول إليه هو بناء الديمقراطية في مجتمع متعدد، وهو ما نراه اليوم في سوريا والعراق وكل المجتمعات المتعددة.
الأكراد جزء من هذه الموجة العالمية، لكنهم أيضا جزء من تركيبة تحيط بهم وتؤثر على قضيتهم. أكراد العراق مثلًا نالوا حقوقهم بعد عام 2003، وصار لديهم ما يشبه الدولة، والجميع كان يتحدث بإعجاب عن النموذج الديمقراطي في كردستان العراق، وكنت أعتقد أنهم سيغيرون مستقبل العالم العربي، لكنهم بالتدريج أخذوا ينغمسون في منظومة الفساد في العراق، ويصمتون على جرائم الإسلام السياسي الشيعي، وينتهكون الحريات، ويقيدون الصحافة، وهذا فتح المجال لتغلغل التطرف، والشعب الكردي هو من يدفع ثمن هذه الأخطاء، وأجدني اليوم مقتنع أن مشكلة الأكراد هي جزء من مشكلة المنطقة، ولن تُحل إلا في إطار شامل، أما فيما يخص قيام الدولة القومية الكوردية فهو طرح مبكر جدًا، لن يسمح به أي من الأطراف الدولية أو الإقليمية في الظروف الراهنة.
*وما هي رؤيتك للحل الشامل؟ 
**ستستمر الصراعات في العالم العربي، ولن تنتهي إلا بحسم قضية فصل الدين عن الدولة، وضمان الحريات والحقوق لجميع المواطنين. شعوب أوروبا دفعت ثمنًا باهظًا لفصل الكنيسة عن الدولة، ولولا هذا الفصل لما وصلت إلى هذه الحضارة وما أنتجته من تقدم تقني. قضية الدين والدولة هي جوهر الحداثة والتحديث. وكل الدول العربية بدأت بالتحديث، لكنها توقفت حين تحولت إلى عوائل وطوائف تستند إلى الدين للبقاء في السلطة.
في السنوات الأخيرة عرفت المجتمعات الأوربية ظاهرة الرفض الكامل لكل الأحزاب التقليدية، يسارية ويمينية، لأنها هرمت، ولم تعد قادرة على مواكبة التطورات التي أحدثتها ثورة المعلومات. هذا الطرح ينتشر بين أوساط الجيل الجديد في كل مكان من العالم، الجيل الرقمي، جيل الشباب الذي قام بثورات "الربيع العربي"، ووجه بالعنف والتواطؤ الأوروبي. لكنه هو من سيقضي مستقبلًا على الأحزاب التقليدية والأنظمة الديكتاتورية، وهو من سيقوم بفصل الدين عن الدولة في المنطقة العربية.

حوار: تهامة الجندي
جيرون 10 أيلول 2018 

م: عمل محمد خلف مراسلا لصحيفة "الوطن" الكويتية.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح