لولو

بقلم: غسان الجباعي
حجمها صغير لدرجة أنها إذا عضتك لا تشكّل خطرًا على حياتك. لكنها رشيقة كالقطة، تملك قدرة فائقة على اللعب والهرب والاختباء والمناورة والتربّص بك. كان اسمها "لولو". كلبة بيضاء كاللؤلؤ يغطي جسمها صوف كثيف. ومع أنها من فصيلة الثعالب، طويلة الخطم، غير أنها مستديرة الأذنين، لطيفة الشكل، كلعب الأطفال. وهي متوترة وشرسة بشكل مضحك، إذا اقتضى الأمر. عيناها سوداوان مستديرتان، مثل زرين من البلاستيك، تلمعان خلف خصلات غرتها الطويلة. قال الطبيب لصاحبها مؤنس، إنها السبب في توترها وشراستها. ولذلك نصحه أن يقصها بين فترة وأخرى. لكن تلك الغرة على ما يبدو، كانت جزءًا من طبيعتها وهويتها. فقد اكتشف مؤنس عندما جرب ذلك، أنها فقدت حيويتها وطرافتها، كما فقدت بريق عينيها وذكاءها الحاد، فلم يعد إلى ذلك ثانية.

"تكاد أن تنطق، قال مؤنس. انظر إلى عينيها. لم أر في حياتي شبيهًا لهما". وعلى الرغم أن كل أصحاب الكلاب يتحدثون بنفس الطريقة عن كلابهم، غير أن "لولو" كانت كلبة استثنائية بالفعل. ردود أفعالها المعبّرة. قدرتها على الإصغاء والفهم أحيانًا. والأهم من كل ذلك تعلقها العاطفي بمؤنس لدرجة تكاد تكون بشرية. تودعه بطريقة عجيبة. تحضر حذاءه. تنط على ركبتيه. تلحس يديه. وعندما يخرج ويغلق الباب خلفه، تنبح مرتين بصوت لا يخلو من الشجن. كما أنها تشعر بقدومه، ما أن يصل إلى مدخل البناية، رغم أنها تعيش في ملحق بالطابق السادس. تنبح ثلاث مرات متتالية، وتقف عند الباب منتظرة قدومه؛ ملوحة بذيلها القصير المدوّر. وما أن يدخل حتى تقف على قائمتيها الخلفيتين وتقفز حوله، مرحة راقصة مستعرضة جذلة، وهي تصدر تلك الأصوات المعبرة، التي تشبه الكلام...
كانت زوجته صفاء تعتني بها، وتزين رقبتها بأطواق من الخرز وفراشات ملونة من القماش. وكان ابنهما الوحيد يلاعبها ويسميها "أختي". يلهو معها ويسمح لها باستخدام ألعابه والنوم في سريره. لكن تعلقها بمؤنس كان أمرًا مختلفا تمامًا؛ فهو من كان يطعمها وينظفها ويمشط شعرها ويحدثها، ويخرج معها للنزهة مرتين أو أكثر في الأسبوع. وكان أهالي الحارة يشعرون بذلك الوئام بينهما، ولم تكن نظراتهم تخلوا من الاستهجان والتعليقات الساخرة، الممزوجة بالغمز واللّمز، لكن أحدا منهم لم يصدق أنها اختفت بتلك الطريقة العجيبة التي تشبه الخيال.
ذات ليلة -قبل بزوغ الفجر- توقفت سيارة دفع رباعي "مفيّمة"، وخرج منها أربعة من زوّار الليل المدججين بالسلاح، ودخلوا مسرعين إلى البناية التي يقطنها مؤنس في حي المزّة. وبعد أقل من ربع ساعة سمعوا صوت الكلبة لولو يملأ مطلع الدرج، ثم رأوها تخرج وحيدة إلى الرصيف وهي تنبح بذلك الصوت الغريب الذي يشبه الاستغاثة أو طلب النجدة.
لا أحد يعلم ما الذي حدث داخل الشقة، ولم يجرؤ سكان البناية على التدخل أو حتى الاستفسار. استيقظوا على أصوات أعقاب البنادق وهي تقرع الباب بقوة. سمعوا زوّار الليل وهم يقتحمون الشقة بصخب. أغلقوا أبواب بيوتهم، كما أُمروا، وراحوا يتنصتون من خلفها، على صراخ الزوجة وبكاء الطفل ونباح الكلبة وشتائم المسلحين. لكنهم رأوهم أخيرًا، من خلف شقوق ستائرهم، عندما خرجوا من البناية، وهم يجرون مؤنسًا، إلى السيارة "المفيّمة"، مقيد اليدين إلى الخلف، محني الظهر إلى الأمام، وقد أخفوا رأسه داخل كيس أسود.
غادرت السيارة المكان بسرعة صاخبة. وحلّ صمت عجيب على الحارة وسكانها. حتى لولو اختفى صوتها تمامًا. لم يخطر ببال أحد أنها لحقت بسيارة الدفع الرباعي، دون أن يشعروا بها.
كان الضوء قد بزغ. وكانت رائحة مؤنس تملأ أنفها. ولم يكن صعبًا عليها أن تتابع تلك الرائحة، أينما اتجهت. لم يكن الأمر سهلًا عليها بالتأكيد؛ لكنها وصلت أخيرًا إلى أحد فروع الأمن في منطقة الجمارك. هناك توقفت لاهثة، عندما رأت الباب الحديدي المتحرك يغلق في وجهها... لكنها سرعان ما قفزت فوق السور، وتمكنت من رؤية صاحبها وقد أنزلوه من السيارة، وربطوا رقبته بحبل وراح أحدهم يجره خلفه، نحو باب قبو منخفض، بينما شرع الباقون بركله وشتمه وضربه بالسياط. كادت تنبح لكنها كتمت صرختها، ولحقت بهم..
لم يفهم الحراس والجلادون والمحققون، من جاء بهذه الكلبة إلى هنا، وكيف تمكنت، من التسلل والدخول إلى هذا المكان السري المحصن بالأسوار والأسلاك الشائكة وأبواب الحديد والبنادق وكاميرات المراقبة. سمعوا في البداية نباحها يشق الصمت المطبق، فاندهشوا. ظنوا أنه صوت موقوف فقد السيطرة على نفسه فراح ينبح كالكلاب، لكنهم رأوها أخيرًا تقف في ممر الزنازين الطويل؛ بيضاء صغيرة يزين عنقها طوق من الخرز الأزرق وفراشة حمراء من الحرير. تنبح بقوة، كما لو أنها تعترض أو تحتج؛ ثم راحت تجوح بصوتها الجنائزي الممطوط مثل أم فقدت صغارها. غير مدركة لخطورة المخالفة، والموقف الذي وضعت نفسها فيه، ولا عابئة بصدى صوتها الذي فجّر مملكة الصمت والموت.
استنفر الفرع، وعمّ الاضطراب، وأُقفلت الزنازين والكوى، وأمر رئيس الفرع بوقف التحقيق وإلقاء القبض -فورًا- على تلك الكلبة السائبة، فهجموا عليها، وتجمعوا حولها، وطوقوها، ظنًا منهم أن الأمر سيكون سهلًا عليهم. وعندما عجزوا عن الإمساك بها، حاولوا التودد إليها بالكلام وتقديم اللحم والمعلّبات، لكنها كانت ترفض ذلك وتهرب من بين أيديهم وأقدامهم، راكضة عبر الممرات المليئة بالزنازين، فيركضون خلفها من جديد، صاخبين ملوحين بسياطهم وهراواتهم...
قفزت فجأة إلى كوة كانت مفتوحة في إحدى الزنازين وغابت بداخلها... فقهقه أحد الجلادين "أي من الأول فوتي لهون" لكن ما أن فتحوا الزنزانة وحاولوا الإمساك بها؛ حتى هربت من جديد أمام دهشة نزيل الزنزانة الذي لم يفهم ماذا يحدث...
عندما تمكنوا أخيرًا من تطويقها وحصرها في غرفة التحقيق الضيقة، تحولت إلى وحش صغير. كشرت عن أنيابها، فصوب كبير المحققين مسدسه الحربي إلى رأسها وأطلق النار.

غسان الجباعي كاتب ومسرحي من سورية
المصدر: شبكة جيرون الإعلامية

تعليقات

الأكثر قراءة

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق