السوريون يريدون الحرية

رزان زيتونة

بمناسبة حصولها على جائزة آنا بوليتكوفسكايا، في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، كتبت رزان زيتونة:
عزيزتي آنا بوليتكوفيسكايا
أدرك جيدًا أن هذا التكريم الذي يحمل اسمك ليس موجهًا إلي، بصفتي الشخصية، بقدر ما هو موجه إلى أبناء وبنات شعبي الذين هُدرت دماء أكثر من ثلاثة آلاف منهم، خلال الأشهر السبعة الماضية، بعقلية الإجرام والإقصاء نفسها التي هُدر فيها دمُك.
أدرك أن شغفك بالحقيقة، والدفاع عن الكرامة الإنسانية الذي دفعتٍ حياتك ثمنًا له، هو حلقة في سلسلة تمتد من أقصى العالم إلى أقصاه، عبر أفراد أو شعوب تؤمن بحق الجميع في حياة عادلة خالية من القهر والإذلال والعبودية.

ويأخذ هذا التكريم -بالنسبة إلي وسواي من السوريين- بعدًا آخر؛ إذ يأتي في الذكرى الخامسة لرحيلك، بصفتك مواطنة روسية، في الوقت الذي لا يزال فيه النظام الروسي يتخذ موقفًا داعمً للنظام السوري، على الرغم من ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، في مدى أشهر، كما وثقته منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، وليس أدلَ من ذلك على أن مشتركات الإنسانية لا تعرف فرقًا بين لغة وأخرى، وقومية وأخرى؛ فهي عابرة للحدود، ومثلها مثل مشتركات الاستبداد والفساد التي تتشابه تمامًا، مهما اختلفت تفاصيلها في كل مكان؛ لذلك، أرى في معركة الحرية التي يخوضها السوريون منذ أشهر، ما ترتاح له روحك، فكل خطوة في اتجاه الحرية والعدالة، في أي بقعة من العالم، هي في مصلحة الإنسانية كلها، والإنسانيين كلهم.
أدرك -آنا- أنك كنت ستتألمين بالغ الألم لما يحدث في بلادي التي عانت من نظام احترف الإجرام عقودًا عديدة، وقضى -في ظله- عشرات الآلاف نحبهم، في مجازر ومقابر جماعية، أو في ظلام أقبية الفروع الأمنية، وعانت مئات الآلاف منهم قهر سنوات السجن الطويلة، وأُجبروا على ترديد عبارات ومظاهر الولاء لجلادهم، ليل نهار، ثم جرى تورّثهم مع بلادهم، بعدّهم متاعًا خاصًا للأسرة الحاكمة، في سابقة هي الأولى من نوعها في نظام جمهوري؛ ذلك كله في ظل صمت وتواطؤ عربي ودولي، قلما شهدنا مثيلً له، وعوضًا من لوم نظام الاستبداد، كان يُلقى باللائمة على الشعب الخاضع لأقسى أشكال القمع والقهر اليومي.
وعندما قرر السوريون، في آذار الماضي، كسر جدران الخوف المتطاولة من حولهم، ومواجهة عنف الأجهزة الأمنية وإذلالها، قاموا بذلك بمفردهم، ليس معهم إلا نفحات الحرية التي هبّت عليهم من تونس ومصر، وحلمهم بوطن جديد لا يسرق أعمارهم وأحلامهم ومستقبل أطفالهم.
ومنذ ذلك الوقت، عمدت قوات الأمن إلى قتل المتظاهرين العزل الذين أذهلوا العالم بإصرارهم على سلمية احتجاجاتهم طوال أشهر، 3031 شهيدًا حتى اللحظة، بينهم 192 طفلً وطفلة، و 85 فتاة وسيدة، وفقا لمركز توثيق الانتهاكات في سورية. وهي أرقام لا تحصي العدد الحقيقي للشهداء؛ نتيجة استمرار اكتشاف المقابر الجماعية، واختفاء آلاف من معتقلي الثورة.
وكذلك حوصرت المدن والبلدات بالدبابات وقوى الجيش، وقُصفت المنازل، وقُتل العشرات تحت التعذيب، بعد تشويه جثامينهم، وسرقة أعضائهم. حمزة الخطيب الطفل، ابن الثلاثة عشر ربيعًا الذي اعتُقل، ونُكّل بجثمانه، وقُطعت أعضاؤه التناسلية، لم يكن إلا واحدًا من حالات كثيرة مشابهة.
اعتُقل الناشطون السلميون، وقُتلوا بدم بارد؛ غياث مطر، المناضل اللاعنفي، ابن الستة والعشرين عامًا، قضى تحت التعذيب، بعد ثلاثة أيام -فقط- من اعتقاله. قدموا له الموت بعد أن كان قد قدم لهم الورد والماء في التظاهرات التي كان يقودها.
اختُطف أفراد من عائلات الناشطين، ونُكّل بهم، وأُعدموا عقابًا لم يستثن أحدًا، والشابة زينب الحصني، تسع عشرة سنة، هي مثال -فحسب- على مايلقاه أهالي الناشطين والمتظاهرين، إذ اختُطفت، وأعدمت بعد تعذيبها تعذيبًا وحشيًا. ونُفّذت عمليات إعدام جماعي، دُفن ضحاياها في مقابر لا تزال تُكشف يومًا بعد يوم.
وكما نفخر -آنا- بأن وجدتِ من الأصدقاء المخلصين من يبقي اسمك حاضرًا؛ ليذكّرنا بما كنتهِ وما قدمتهِ في سبيل الحقيقة وحقوق الإنسان، أتمنى أن أتمكن من ذكر أسماء شهدائنا، اسمً فاسمً، وأتمنى أن أتمكن من ذكر عشرات الآلاف، ممن تعرضوا للاعتقال والتنكيل، ولا يزالون معتقلين منذ بداية الثورة، اسمً فاسمً، كلٌّ على حدة، أطفالً ونساءُ وشبانًا وشيوخًا؛ إذ يستحقون أن تُلَّد أسماؤهم، وأن يُكرّموا، وأن نشكر لهم فتحهم باب الحرية المغلق منذ عقود أمامنا، لنكمل الطريق معهم ومن بعدهم.
ولأذكَرَ العالم بأن مثل هذا الشعب الذي مورس بحقه كل هذا الإجرام، وما يزال صابرًا ومستمرًا، يستحق منه أكثر بكثير من الصمت المتواطئ، أو التنديد الخجول، العالم الذي استنكف -إلى اللحظة- حتى عن إحالة ملف هذا النظام إلى محكمة الجنايات الدولية، على الرغم من إقراره بما ارتكبه من جرائم. وأن جميع هؤلاء، ممن نعرف بعضهم ولا نعرف معظمهم، يصنعون تاريخًا جديدًا في بلدهم ومنطقتهم، وكما لا أملَ من القول، يشرعون في عملية خلق لوطن ومستقبل من ركام عنف أقامه واحد من أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم.
مستمرون -آنا بوليتكوفيسكايا- في ذكراك، وذكرى جميع رموز الحقيقة والحرية في العالم؛ حتى تسود سوريتنا، والعالم أجمع، قيم الحرية والعدالة.

م: في التاسع من ديسمبر 2013 اختطفت رزان زيتونة من دوما، هي وزوجها وائل حمادة وسميرة  الخليل وناظم الحمادي، ولا يزال مصير الأربعة مجهولًا.  

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق