معايدة

بريشة سميرة بيراوي

بقلم: سلوى زكزك

مطر غزير يهطل منذ الصباح، تعتمد أم صادق على صوت زقزقة العصافير لتخرج من جحرها، العصافير التي تصمت فور هطول المطر لتعاود الزقزقة فور توقفه وكأنها تخبر الجميع بأن الغيمة الماطرة قد أفرغت ما في جوفها وعادت أدراجها نحو السماء.
تعيش في الحديقة العامة منذ ثلاث سنين، كل شيء مبتل، الفرش والوسائد وأكياس المونة والغطاء الصوفي العتيق واللحاف القطني السميك وحقيبتا الملابس.
بأعجوبة، صنعت لنفسها مأمنا من مياه الأمطار التي زادت عن معدلها السنوي هذا العام، سطتْ أم صادق على دفتيّن من الخشب، يسمونها أرضية، وهي فعلًا القاعدة السفلية لحاوية بلاط الرصيف الذي قرروا تغييره منذ شهرين، في أول يوم لهم سرقتْ الدفة الأولى، حين استغلت انشغالهم بكاميرات التلفزيون التي جاءت تصور الحدث العظيم، وتنقل بالصور وليس بالخبر فقط الإصلاحات العظيمة التي تحصل يوميًا للبنية التحتية للمدينة رغمًا عن أجواء الحرب الضروس التي تنشر الفتنة القاهرة وتلحق بالمدينة خسارات غير محتملة.

أما الدفة الأخرى فقد دفعت مائتي ليرة كاملة ثمنًا لها حين اشترتها من ولد متشرد، غافل رئيس العمال وسرقها. رصفتْ أرضية الحديقة بثماني بلاطات مستعملة جلبتها من أنقاض بيت قديم، مقاس عشرين سنتيمترًا بعشرين أخرى، أي ما بلغت مساحته متر وستون سنتيمترًا، ووضعت الدفتيّن فوقها فحصلت على ما يشبه السرير المرتفع عن الأرض بحوالي النصف متر، وجعلت من شادر بلاستيكي غطاء لها بعد أن ربطت طرفيه بحديد سور الحديقة، أما الطرفان الآخران الكفيلان باكتمال صناعة المظلة فقد ربطتهما بعمودين حديديين مبرومين، كانا يشكلان قاعدتين أساسيتين لمظلة معدنية لإحدى عربات الفول المنسية هنا، أو المتروكة رغمًا عن صاحبها أو؟؟؟؟
المهم أنها الآن في مأمن من الجرذان والعقارب، ومن المطر ومياه المجاري التي تطوف كثيرًا، والأهم أنها في مأمن من بعض دخلاء الليل الذين قد يندسون في فراشها المكشوف ذات ليلة، دخلاء من السكارى الغارقين في بولهم وغربتهم، أو من الأطفال التائهين عن أهلهم أو الهاربين من تجار البشر ومن الضباع البشرية، أو قد تلجأ إليها فتاة نسيت اسمها وخانتها وعنوان بيتها، أو امرأة جف بصرها من شدة البكاء، وقد اشتمت رائحة الأمومة ورمت نفسها ونامت دونما استئذان أو ترحيب.
زقزقتْ العصافير كجوقة موسيقية أشار لها المايسترو بشارةِ البدء، خرجت أم صادق من جحرها لتجمع الأغطية المبتلة والوسائد وحقيبتيّ الملابس، وتعيدها إلى الداخل خوفًا من معاودة هطول المطر، مما قد يحولهم لحمل ثقيل مضاعف الوزن لا قدرة لها حتى على رفعه.
كان اليوم مربكًا وفي طياته رائحة الغدر، فقد بدا منذ الصباح مشمسًا ودافئًا، مما دفع أم صادق لتخرج متاعها كله وتعلقه على السور المعدني للحديقة ليتشبع من دفء الشمس، وكي يتخلص مما علق به من أوساخ وغبار، وذهبت إلى سوق الخضار القريب لتشتري شيئًا للطبخ، وفي أول السوق فاجأها المطر! أصرت على شراء كيلو غرام من البصل ورأس قرنبيط متوسط الحجم، ظنًا منها أنها مجرد سحابة صيف، أو أنها، وان كانت سحابة شتوية لكنها شحيحة المطر. لكن هطول المطر اشتد وأعاق عودتها السريعة لتلم متاعها وتحميه من عبث السماء ووعود الشمس الكاذبة.
بالأمس أمطرت السماء أيضًا، لكن كل شيء بقي جافًا إلا كيس الكفن الذي نسيته تحت دفتيّ الخشب فابتل ودخلت المياه إلى داخله، مما أجبرها على غسل الكفن والذهاب إلى سوق الخجا لشراء كيس نظيف وجاف وكبير يتسع للكفن الذي رافقها وحيدًا أثناء خروجها المفاجئ من بيتها الصغير والبعيد جدًا، أمسكت به وخرجت مسرعة هاربة من الحديد والنار، ووصلت إلى هنا واستقرت، أسعدها أن بائع الأكياس في سوق الخجا منحها الكيس الجديد والسميك دونما مقابل.
خرجت أم صادق من جحرها بناء على تطمينات العصافير، شابة أنيقة بشعر مصفف وجاكيت شتوي سميك بقبة من الفرو وضعت شيئًا أمام فم أم صادق، وقالت ببشاشة مبالغ بها: كل عام وأنت بخير يا خالة!!
عقدت الدهشة لسان أم صادق، خير عام؟ كل؟ ماذا يحدث إذن؟ سألت الشابة قائلة: خير يا ابنتي؟ أجابت الشابة نحن فريق تلفزيوني حضرنا لمعايدتكِ برأس السنة.
سألت أم صادق المذيعة الشابة عن الوقت وعن تاريخ اليوم وعن رقم السنة القادمة وعن معنى العيد... لكن المذيعة كانت في عجلة من أمرها وسألتها بعجالة وعيناها على الكاميرا وكأنها لا ترى أم صادق أبدًا، ما هي الهدية التي تفضلينها يا خالة؟ لم تفكر أم صادق كثيرًا بجوابها، ولم تسأل ذاكرتها عما تحتاجه، كانت في عجلة من أمرها أيضًا، تريد لمَّ متاعها بسرعة قبل مباغتتها بغيمة مدرارة وسخية. لم تلتفت نحو المذيعة، حدقت بالكاميرا، انتصبت قليلًا، حتى ظنت أنها صارت أكثر طولا مما قبل، رفعتْ رأسها المتراخي، أرختْ حاجبيّها المتشنجيّن ورسمت ابتسامة جدية على شفتيّها، وقالت وبما يشبه الإعلان: أريد ساعة حائط وروزنامة!! وكل عام وأنتم بخير.

من قصص مجموعة "يوم لبستُ وجه خالتي الغريبة".

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق