لماذا الحنين إلى الماضي؟!

بريشة سعد حاجو

أربع صور بالأبيض والأسود جالت الكثير من الأجهزة الذكية، وحطت على هاتفي في دورة المشاركات اليومية، الصورة الأولى لقاعة دراسية ومجموعة من الشابات المصريات السافرات يصغيّن إلى معلمهم الشيخ، كُتب في أعلاها بالخط الأحمر: كلية البنات الإسلامية، جامعة الأزهر في الستينات قبل الغزو الوهابي واعتبار المرأة عورة. الصورة الثانية تجمع الشيخ المقرئ مصطفى اسماعيل بالفنان عبد الوهاب، والثالثة تجمعه بأم كلثوم، ثم صورة زوجة الشيخ وهي تعزف على البيانو حاسرة الرأس، ويكتمل المشهد بتعليق منفصل، أن عبد الناصر منح جائزة الدولة للشيخ والفنانيّن الكبيريّن في حفل واحد.


أتأمل الصور التي مضى على زمن التقاطها قرابة ستة عقود، وأفكر برمزية إعادة نشرها وتداولها من جديد، هي ومثيلاتها من ستينات القرن العشرين. تبدو وكأنها محاولة للدفاع عن قيم الإصلاح الديني وحقوق المرأة والفن الرفيع، لكنها عن قصد أو بغير قصد تستبطن الدفاع عن حكم العسكر، وتحاول استعادة حقبة جمال عبد الناصر، باعتبارها تمثل العصر الذهبي في التاريخ العربي الحديث، والأنموذج الأمثل لمواجهة التطرف الإسلامي والإرهاب. زعيم يتمتع بحس وطني وكاريزما قيادية، عمل على مشروع قومي اشتراكي، التفت حوله أحلام الشارع العربي وآماله، وأصبحت مصر بقائدها وتحولاتها ورموزها الفنية والثقافية "أم الدنيا" وقدوة العرب.
لم يدرك الكثيرون أن مشروع جمال عبد الناصر وصل إلى طريق مسدود مع هزيمة الخامس من حزيران 1967، حتى وهم يستمعون إلى خطابه، وهو يعلن مسؤوليته الشخصية عما حدث، ويقرر التنحي عن منصبه. بكى الملايين وخرجوا إلى الشارع يطالبون بعودته لاستلام زمام أمرهم، وحين رحل الزعيم بعد ثلاثة أعوام، وفُتحت ملفات السجون والتعذيب في عهده، تجاهلوا الضحايا، كي لا تهتز في عيونهم أيقونة الوعد الجميل.
كنت واحدة من أطفال كثيرين انفتح وعيهم على مشهد الهزيمة والدموع، وكنت شاهدة على استنساخ صور الزعيم القومي في بلدي بأشكال أكثر تعسفية، ليس فقط على مستوى السلطة، بل أيضا على مستوى المعارضة في بعض الأحيان، استنساخ مرعب جعلني أميل إلى الأصل، ولولا الثورة السورية، ربما ما كنت لأعيد النظر في الشعارات والقضايا، التي اعتبرها معظم أبناء جيلي من البديهيات والمسلمات تحت تأثير الدعاية الموجهة، الاحادية الجانب، واحتكار السلطة لوسائل الإعلام والمعرفة.
رصاص النظام السوري الذي ثقب جباه المتظاهرين، والفيتو الروسي والصيني الذي سمح باستمرار الجريمة، أزاح عن ذهني غمامة الأيديولوجيات، وجعلني أبصر الديكتاتور عاريًا، وأتساءل: هل كان حقًا انسداد أفق المشروع القومي بسبب الأعداء والمؤامرات والدسائس؟ أم لخلل في بنيته النظرية، ولافتقاره إلى الأساس الديمقراطي؟.
لعل أحد إشكالات الفكر القومي بنسخته الناصرية، ثم البعثية بشقيها اليساري واليميني، كان اعتماد الإسلام والتراث الإسلامي مرجعًا لتأصيل الهوية الثقافية العربية، ما أسس عمليًا لاستعصاء فصل الدين عن الدولة، ولارتداد معظم النتاج الثقافي نحو حقب تاريخية سابقة لزمن إنجاز المشروع القومي، بدلًا من الاهتمام بالواقع الحاضر، الذي هو محور التحوّل والمتغيرات، بما يحمله من خصوصيات وروابط وأزمات وتطلعات، يمليها الانتماء إلى المكان الواحد والعيش المشترك.
الإشكال الآخر كان في ربط المسألة القومية ببناء الدولة العربية الواحدة، الممتدة من المحيط إلى الخليج، ونظرًا للخلافات داخل "الانظمة القطرية" وفيما بينها، كان لا بد من تسويغ الانقلابات العسكرية، وتكريس فكرة الديكتاتور العادل الذي سيجمع شمل الأمة، ويبني الدولة القومية بقوة السلاح، وفي ظل هذه الرؤية التعسفية لصياغة الهوية وإقامة الدولة، فقد المشروع القومي عمقه المدني وبعده الحداثي، وأنتج طغمًا عسكرية حاكمة تفتقر إلى الشرعية، قضت على فاعلية المجتمع المدني، وأودت بجميع الحريات العامة وحقوق المواطنة.
روح الحداثة والتحرر الاجتماعي التي طبعت رموز الفن والثقافة في عقد الستينات، كانت نتاج قرن من الحراك المدني، أسهمت في صياغة تصوراته حول الدولة والمجتمع والدين مختلف التيارات الفكرية والسياسية وأعلام النقد والإبداع، زمن التعددية التي اختزلها جمال عبد الناصر بانقلاب عسكري وسياسة اللون الواحد، مستلهمًا التجربة الستالينية في بناء الدولة السوفيتية والمعسكر الاشتراكي، ولم تجلب المحاولات اللاحقة لاستنساخ تجربته وإعادة إنتاجها، سوى الكارثة تلو الأخرى، من القذافي إلى الأسد وصدام حسين. ولم تكن السلطات التي حكمت باسم الإسلام في البلدان الأخرى أقل بطشًا من تلك التي حكمت باسم العروبة أو اليسار، جميعها أسفرت عن نظم شمولية قاتلة في دول أمنية مرعبة.
مقابل ثقافة النخبة وفن النجوم، وصور القائد الخالد، وحيدًا، أو وهو يوزع عطاياه على المحكومين بأمره، أنتجت ثورات الربيع ثقافة الشارع وفن الاحتجاج وصحافة المواطن وصور الضحايا، للتعبير عن المسكوت عنه من الانتهاكات والمظلوميات، وحين أدقق النظر في تفاصيل المشهد الراهن، أشعر بالقرب من الطالبة الجامعية السورية المحجبة لمى الباشا التي قُتلت بالتعذيب، والمحامية السعودية المعتقلة لجين الهذلول، أكثر من قربي من الطالبات المصريات السافرات في الستينات. ويهز قلبي صوت الساروت وكنداكة السودان، أكثر مما تفعل أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، تعجبني بلاغة "لافتات كفرنبل" ولوحات الغرافيتي وأدب السجون والمهجرين. هنا حياتنا بلا زيف، وليس أمامنا كي ننجو بأرواحنا سوى تفكيك بنى الطغيان، وكتابة عقدنا الاجتماعي الجديد بالاعتماد على حق المواطنة وحقوق الإنسان، بعيدا عن عقد تقديس الرموز.

تهامة الجندي

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق