نظام الأسد وملف الجولان


في هذا الشهر تستعيد ذاكرة السوريين تفاصيل الملف الذي كُتب بالكثير من الضحايا والدماء، والذي بدأ بالدور الذي لعبه حافظ الأسد في خسارة الجولان، بوصفه وزيرًا للدفاع أثناء حرب الخامس من حزيران 1967. الدور الذي كشفه رئيس المخابرات السورية حينها عبد الكريم الجندي، وذهب ضحية كشفه بتاريخ 2 آذار 1969، وحتى اليوم ما من أحد قادر أن يجزم هل انتحر الجندي، كما أًشيع، أم قُتل؟ وما هي المعلومات والوثائق التي كانت بحوزته، ومن أين حصل عليها وكيف؟ فلم يبقَ من تلك الفترة سوى بعض التكهنات والفرضيات، بعد أن أُتلفت الدلائل وغاب الشهود.

بحسب الباحث نشوان الأتاسي، بدأ الأسد بانقلابه العسكري والتخلص من خصومه منذ الخامس والعشرين من شباط 1969، أي قبل وفاة الجندي الغامضة بأسبوع، واستمر بتجريد رفاقه من صلاحياتهم والاستيلاء على السلطة بالتدريج، وبمنتهى الهدوء والحذر والتكتم حتى لحظة الإعلان عن قيام ما أسماه بـ"الحركة التصحيحية" في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 (1)، حيث اعتقل قيادة البعث السابقة، ولم يخرجوا من السجن إلا بالكفن، أو مرضى بالسرطان يلفظون انفاسهم الأخيرة.
بهذا القدر من الضحايا طوى الأسد زمن الشبهة التي حامت حوله،  بكل ما فيه من شخصيات ووقائع ورموز، وبدأ عهدًا جديدًا من التفرد بالسلطة وبناء الدولة الأمنية، معتمدًا سياسة التكتم والتجهيل والتضليل كنهج أساسي في علاقة الحاكم بالمحكومين. ما ينشره الإعلام الرسمي من خطب حماسية وتصريحات وطنية وأخبار عن الانجازات والانتصارات ونتائج الانتخابات والاستفتاءات المبهرة، لا يتطابق مع واقع الاعتقالات والاغتيالات والمجازر التي شهدها السوريون بكل طوائفهم وإتنياتهم، ولا يفسر مثلًا دخول الجيش السوري إلى لبنان، أو تولي بشار الرئاسة بالوراثة، فكل الانتهاكات والمباحثات والقرارات المصيرية تجري بمنتهى السرية وبالتعتيم الإعلامي الكامل. وحدها الرشى باتت تحدث بالعلن، ومن يرفض النعمة يلقى العقاب.
فجأة اندلعت حرب "تشرين التحريرية" بعد ثلاث سنوات من "الحركة التصحيحية"، وصفقنا لانتصاراتها في البداية، ثم ما لبثت إسرائيل أن استعادت ما خسرته، واحتلت أجزاء أخرى، ولم يبقَ لنا من علامات النصر البهيج سوى صورة القنيطرة المدمرة التي أبى الأب وابنه إعادة إعمارها لتذكيرنا بشراسة العدوان، لكن حين أصدرت إسرائيل قرار ضم الجولان المحتل، ووضعه تحت سيادة قضائها وقانونها المدني عام 1981، لم يطلق نظام الأسد رصاصة واحدة على العدو، ولم يأخذ بعين الاعتبار موقف أهل الجولان ممن أصدروا وثيقة لتأكيد انتمائهم إلى الهوية السورية. احتفظ بحق الرد، وكانت قطعاته العسكرية جاهزة بعد عام للانقضاض على مدينة حماه وارتكاب أبشع المجازر بحق ساكنيها، وكانت أسرع من البرق في إخماد انتفاضة الكرد عام 2004.
والمفارقة أن ملف الجولان طُوي منذ اتفاقية فض الاشتباك 1974، وجرى التعتيم عليه، ووُلد أكثر من جيل بعد الهدنة، لم يعرف أن من يزاود باسم القضية الفلسطينية ويستثمر بها، هو نفسه من استغنى عن الجولان، فالأسئلة حول القضايا المصيرية ممنوعة على الشعب السوري، وتعني التشكيك بالقيادة الحكيمة والعمالة للصهيونية والإمبريالية، حتى بعد التصريح العلني الذي أطلقه رامي مخلوف إثر قيام الثورة السورية أن: أمن إسرائيل رهن ببقاء نظام الأسد.
طال الزمن ولم تعد قضية الجولان مجرد مرتفعات حدودية متنازع عليها، تبلغ مساحتها 1860 كم2، استولت إسرائيل على أكثر من ثلثيها. باتت قضية إنسانية ذات أبعاد مركبة تزداد تعقيدًا وتشعبًا مع مرور الوقت، ليس فقط لأن المرتفعات الخصبة تبعد 60 كم متر عن العاصمة دمشق، وتضم 14% من مخزون سورية المائي قبل حرب حزيران، بل كذلك بسبب التغيير الديمغرافي الذي طرأ على المنطقة خلال نصف قرن. فقسم من أهالي الجولان قَبِل بالواقع المفروض، وبات يحمل الجنسية الإسرائيلية، والبعض ممن آثر البقاء على أرض الآباء والأجداد أصر على هويته السورية، ولا يزال يقاوم الاحتلال، ومنهم من قبع في السجون الإسرائيلية لأكثر من عقدين، وهناك الإسرائيليون من سكان الكيبوتزات التي بُنيت في الجولان. في المقابل هناك الكثير من الجولانيين الذين هُجروا وغادروا إلى دمشق، وعاشوا حياة فقيرة في أطراف المدن، ولا يزالون يحملون صفة نازح، ومنهم من دخل السجون السورية لاشتراكه في عمليات المقاومة ضد إسرائيل. جميع هؤلاء على اختلاف ظروفهم ومواقفهم يحق لهم أن يعيشوا آمنين في واقع مستقر، ويحق لهم أن تُؤخذ آرائهم واحتياجاتهم وحقوقهم بعين الاعتبار أثناء البت في تقرير مصيرهم.
مع رياح التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية وانهيار المعسكر الاشتراكي، تهاوى مفهوم اللاءات الثلاث (لا للاعتراف، لا للتفاوض، لا للصلح) الذي كان يحكم علاقة معظم الأنظمة العربية بإسرائيل، وانعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وبعد عامين تخلت منظمة التحرير عن الكفاح المسلح وكافة أشكال العنف، ووقع ياسر عرفات اتفاقية أوسلو، أو مبادئ الحكم الذاتي الانتقالي التي ستفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية، ومنذ عام 1994 عُقدت الكثير من جلسات التفاوض بين الجانبين السوري والإسرائيلي لحل قضية الجولان وتوقيع اتفاقية السلام، لكن أحدًا لم يعرف شيئًا عن سير هذه المفاوضات، فقد ظلت طي الكتمان.
عادة حين يجري البت بالمسائل الإشكالية والقضايا المصيرية في الدول الديمقراطية، تقوم الجهات المسؤولة بإجراء استطلاعات الرأي والاستفتاءات الشعبية الحرة، لإشراك المواطنين في وضع الحلول واتخاذ القرارات الأكثر ملائمة للصالح العام، لكن نظام الأبد عزل الشعب السوري عن الشأن العام وعن العالم الخارجي، ومارس سياسة الابتزاز وتأبيد الصراعات والأزمات على كافة المستويات الداخلية والخارجية، بحيث بات من المستحيل إيجاد مخرج لها مع استمرار بقائه في الحكم، لاسيما فيما يتعلق بقضايا الحريات العامة وحقوق المواطنة وتحقيق السلام العادل، التي تتطلب قدرًا عاليًا من الشفافية وحق إبداء الرأي والاختلاف.
في لحظة تاريخية تختزل دهرًا من التنكيل والفساد والإقصاء، انطلقت الثورة السورية تنادي بالحرية والكرامة ودولة المواطنة، وانضم إليها الكثير من نازحيّ الجولان، وشاركوا في المظاهرات السلمية، لكن أحدًا لم يتوقع أن نصف مساحة الوطن سيغدو على شاكلة القنيطرة المدمرة، وأن أكثر من نصف الشعب السوري سيصبح من النازحين والمهجرين قسرًا، وأن من سينجز المهمة هو الطيران السوري مستخدمًا الأسلحة المحرمة دوليًا، ومتحالفًا مع الأنظمة المعادية لحقوق الإنسان والتنظيمات المشبوهة. حينها أدرك المنكوبون أن لا عدو لنظام الأسد سوى السوريين، ولا حياة لسوريا إلَّا برحيله.

تهامة الجندي

1- نشوان الأتاسي، "كيف ومتى وصل حافظ الأسد إلى السلطة في سورية؟"، موقع "التاريخ السوري المعاصر"، 15 آذار 2019.

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق