أشباح الأقبية

لونا وطفة

بقلم: لونا وطفة
نيسان/أبريل العام 2014- المهجع الرابع من الجناح الخامس في السجن المركزي في دمشق.
أسلمتُ جسدي المنهك للفراش، وغفوت بعمق هاربةً من ازدحام وشوشات المعتقلات الأربعين اللواتي يشاركنني مهجعاً يتسع بالكاد لنصف هذا العدد. النوم هو غيبوبةٌ ألوذ بها بمحض إرادتي، أو هو نصف موتٍ كما يقال. في تمام الثالثة فجراً من تلك الليلة النيسانية، انتزعني الفزع من غيبوبتي، حيث وقف أحد الحُرَّاسِ فوق رأسي مادّاً قامته، ثم شدّني بعنف ودفعني ركلاً وضرباً أنا والأخريات خارج المهجع.

نالنا عقاب شديد في تلك الليلة طال حتى العجائز بيننا. أُعِدنَا بعد ذلك إلى المهجع وأوصدت الأبواب.. ثمّ رانَ صمتٌ ثقيل. لم تكن ملامح الحُرَّاس ليلتها تشبه ملامحهم كما ستبدو لي فيما بعد. للمرّة الأولى، أعترف أني في هذه الليلة وبعد أن غفوت مجدداً..بلَّلتُ فراشي! لم يكن السبب مرضاً أصابني خلال فترة الاعتقال، بل كان الخوف. وحده الرعبُ من يخرجك –جسداً وروحاً- عن الطبيعي والمألوف ويسلبك المقدرة على التحكم باحتجاجات جسدك التي لا تعرف قيداً.
عودة إلى حفلة الاستقبال
في يوم الاستقبال أخذت مكاني في الطابور منتظرةً دوري لتسليم الأمانات، حيث يتم هنا تسجيلنا "كإرهابيات" –باعتبارنا معتقلات رأي- حسب التسمية الرسمية لنظام الأسد.
جُلت بنظري على الطابور المؤلف من عشرين معتقلةٍ اصطففنَ أمامي، لتقع عيناي في نهايته على عرّيفي الاستقبال؛ السجَّانَين أبي تيمور وأبي نغم (كما عرفت لقبيهما لاحقاً)، وقد بدت عليهما علائم الغطرسة وحب البطش، فيطرح كلاهما كل معتقلة بدورها أرضاً ويسحقانها ضرباً وتعذيباً وإهاناتٍ لفظية. في لحظات انتظار الكارثة القادمة إليّ ما هو أكثر مرارة وهولاً من الكارثة نفسها.
حدث هذا يوم وصولي إلى السجن المركزي، وهو المحطة الأخيرة حيث تنتهي رحلة المعتقل في الفروع الأمنية المتعددة، وينعم ببعض الراحة بعيداً عن استجواب المحققين وجحيم التعذيب. اعتقدت عند وصولي أنِّي سأحظى بقسط أكبر من الطمأنينة، لكن السجن قادرٌ دوماً على أن يخيب ظنك ويغيّب أملك.
أبو تيمور وأبو نغم
كانت إحدى مهامِّهما اليوميَّة هي فتح أبواب المهاجع في السابعة صباحاً، وعادةً ما يبدي الرجلان وحشية مفرطة في فتح أًغلاق الأبواب على سبيل المثال، أو ضرب الباب الحديدي بقطعة حديدية بًغية الوصول إلى الترهيب المُبتغى، أو الصراخ وحتى الصفع أحياناً لمن تتأخر عن النهوض من السرير. علاوة على ذلك، أوكِلَ إلى هذين السجانين مهمة إنزال عقوبات مفاجئة بعد منتصف الليل دون أن يعرف أحد سبباً لذلك في معظم الأحيان.
بدا لي أن الرجلين يبالغان في أداء مهامّهما، بصورة تتجاوز ما هو مطلوب من السجّان العادي أو النمطي. لم يكن حالهما على هذا المنوال دائماً، حيث أظهرا لطفاً شديداً في تعاملهما مع السجينات بعض الأحيان -وهو ما يبدو متناقضاً مع ملامحهما الفظّة وقسوتهما المعتادة- خاصة في حال عدم وجود أوامر من رؤسائهما.
أثار هذا الجانب سخريتي، فقد اعتقدت أن المبالغة من خصالهما وأنهما يبالغان في اللطف كما في تنفيذ الأوامر. غير أن هذا التضارب يجعل المعتقل في حالة تأهبٍ دائمٍ، فهو يتوقع أن يصبَّ هذا الشخص المبتسم جامَ غضبه عليه بعد لحظات، إن تلقى أمراً بذلك، ليتحول المعتقلُ حينها إلى مهمة واجبة التنفيذ على أكمل وجه. 
لم أعرف اسميهما الحقيقيين. أبو تيمور وأبو نغم، ليسا سوى اثنين ضمن حراسٍ كُثُرٍ يعجُّ بهم السجن، لا يحمل أي منهم رتبة تُذكر في الهرمية العسكرية أو الشُّرَطِيّة. وفي واقع الأمر، لا فرق بين حارس وآخر، أو مدير سجنٍ هنا ومحققٍ في الأفرع الأمنية؛ كلهم سواء. يتشابه أفراد هذه الزمرة في ملمح محدد وهو اعتيادهم على ممارسة الشرّ وإلحاق الأذى بالضحايا دون أدنى شعورٍ بالذنب، ودون أن يتعارض ذلك مع حياة طبيعية كسائر الناس يعيشها هؤلاء خارج سطوة أوامر رؤسائهم.
تفاهة الشَرِّ
قاربت المُنَظِّرَة السياسية حنّة آرندت هذا الملمح في نظريتها المسماة "تفاهة أو عاديّة الشرّ". حيث تقول آرندت في ما كتبته لصالح مجلة نيويوركر، حول محاكمة أدولف إيخمن، أحد المسؤولين عن ترحيل وإعدام اليهود إبَّان حكم النازيين : "لقد أنكر إيخمن وبإصرار أنه فعل أياً من جرائمه بمبادرة شخصية منه، وأنه لم يملك النيّة بالمطلق لفعل الشر أو الخير على حد سواء. هو لم يفعل –كما يدّعي– سوى طاعة الأوامر!". وتُبيّنُ آرندت أن أعظم الشرور في العالم يرتكبها أشخاص "نكرات" دون دوافع أو قناعات. كل ما في الأمر أنهم تخلّوا بملء إرادتهم عن إنسانيتهم، حين قرروا اتباع الأوامر فقط.
في مقاربة أخرى ضمن السياق نفسه، أورد كولن ولسن في كتابه "التاريخ الإجرامي للجنس البشري- سيكولوجية العنف" وقائع مذبحة ارتكبتها القوات الخاصة النازية عام 1944، في قرية إدوارد-سورجلان الفرنسية.
حيث قام الجنود الألمان بجمع سكان القرية وأمروهم بالتوجه إلى الساحة، ثم فصلوا النساء والأطفال وساقوهم إلى كنيسة القرية. كان الألمان لطفاء، يضحكون ويلاعبون الأطفال، ثمّ، وعند إشارة معينة من القائد فتح الجنود النار على الرجال وقتلوهم جميعاً، وأضرموا النار في الكنيسة التي جمعوا فيها النساء والأطفال وأحرقوهم أحياء.
وحين حاول بعض الأطفال الفرار من النيران كان الجنود يمسكونهم ويلقون بهم داخل الكنيسة المشتعلة. يذكر ولسون شهادة رجل سويسري شهد الواقعة، حيث يقول: "أنا مقتنع أن أولئك الجنود لم يشعروا بكراهيةٍ اتجاه الأطفال الفرنسيين حين كانوا يحملونهم ويداعبونهم، ولو جاءتهم أوامر عكسية لاستمروا في مداعبة الأطفال واللعب معهم. كان الجنود الألمان واقعين تحت تأثير الأوامر، وكان للأوامر نفس تأثير التنويم المغناطيسي".
إن اعتياد شخصٍ ما على ممارسة "الشرِّ" كحرفة حياتية لأمرٌ مرعبٌ حقاً، لكن هل هو مجرم بالفطرة، أم فرد من مجموعة أفراد أتقنت السلطة وأجهِزَتُها استغلالهم وتحويلهم إلى أدوات للقتل، تنفذ ما يطلب منها دون مساءلة؟
لا ينفي هذا التساؤل مسؤولية هؤلاء الأفراد بأيِّ حالٍ ولا يرفع عنهم صفة المجرمين، إذ أنهم اختاروا في لحظةٍ ما، بملء إرادتهم ولأسباب مختلفةٍ، أن يكونوا مجرَّد تُروسٍ تحمي الآلة الإجرامية للنظام القمعي. من ناحيةٍ أخرى، لم يرتكز العمل الأمني على طائفة واحدة من الطوائف السورية، كما ساد الاعتقاد طويلاً، حيث تضم المنظومة الأمنية التي اتسع طيفها بعد الثورة أفراداً ينحدرون من الطوائف السورية كافة، وهذه حقيقة خَبِرها كل من عاش تجربة الاعتقال في سجون النظام السوري.
إذاً، ليس ثمّة أساسٌ عقائدي أو ديني أو دافعٌ انتقاميٌ وراء انخراط هؤلاء في العمل الأمني. انعكس التعداد الكبير للعاملين في القوى الأمنية وتعاظم ساديَّتهم على أعداد الضحايا الهائل من المدنيين غير المسيسين في معظمهم. فقد أقدم هؤلاء منذ بداية الثورة عام 2011 على اعتقال وتعذيب ما يزيد على مئتين وعشرين ألف معتقل، بينهم تسعة آلاف طفلٍ دون سن الثامنة عشرة، وما يقدر بخمسة آلافِ امرأةٍ حسب ما وثقته جهةٌ واحدةٌ فقط هي الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
ما يزيد الأمر مرارةً وهولاً هو عدد من قضوا تحت التعذيب في غضون هذه السنوات، منهم من نرى صورهم الآن ضمن مَلَفِّ قيصر المُسَرَّب، وهم حصيلة سنتين فقط من عُمر الثورة. إنها أرقامٌ مثيرةٌ للخوف دون شك، لكن مقدرة عناصر هذه الآلة القاتلة على الاستمرار في احتراف القتل والتعذيب، إلى يومنا هذا، هو ما يخيف أكثر.
استذكر في هذا الصدد مثالاً عن هذه الفئة، وهو أحد رجالات النظام سابقاً أنور رسلان، ففي محاكمته التي بدأت هذا العام في ألمانيا كأول محاكمة من نوعها لم يتذرع كمتهم بحجة "إطاعة الأوامر" بل على العكس أنكر تهمهُ جميعها، ولكن ربما وبعد مضي الوقت وإثبات التُّهم قد يلجأ لقوله: إنما اتبعت الأوامر فقط لاغير، ولم يكن أيَّاً من ذلك نتيجةَ مبادرةٍ شخصيةٍ مني، كما فعل قبله إيخمن.
الشاهد في قضية رسلان أن عقدة الذنب لم تلاحقه أيضاً، لتجعله يعترف بجرائمه التي نسمعها الآن خلال المحاكمة من الضحايا أنفسهم، إذاً كيف نفهم اعتياد أنور وأمثاله ممارسة "الشر" كمهنة دون إحساسٍ بالذنب أو الندم؟
تقول آرندت: "محاولة الفهم لا تعني المغفرة". نعم، لا تعني محاولاتنا لفهم ما جرى ويجري تبرير أفعال أولئك البشر-الآلات- أو غفرانها. يُلِحُّ عليَّ فهم هذه المجريات بشدة ويطرحُ مئات إشارات الاستفهام والتعجب والإشمئزاز، سيّما، وكما ذكرت مسبقاً، وأن الغالبية العظمى من ضحاياهم مدنيون غير مسيسون ساقهم الاعتقال الاعتباطي إلى يد هذه الزمرة المجرمة.
ليس للتعبئة الأيديولوجية (أو الوطنية) دورٌ يذكر في هذا المقام، فليس بين الضحايا (المعنيين) أعضاءٌ فاعلون مؤدلجون في أحزاب "تخريبية"، وليسوا مواطنين من دولة معادية مثلاً! ما هو سرّ هذه الجاهزية "البافلوفية" لدى السجانين ليندفعوا إلى ممارسة ساديتهم مباشرة دون تفكير؟ هل هو التماهي مع عدوان المُتسلط الأكبر أو الأعلى شأناَ، ما يدفع السجان إلى لعب دور القوي هرباً من مأزقه وإحساسه بالدونية وانعدام القيمة فيصب حِمَم ضعفه وعجزه على ضحايا أضعف منه، علّه يستعيد بعضاً من اعتباره الذاتي؟ حتى وإن كان علم الاجتماع يقدم تشريحاً مفصلاً لنفسية الجَلَّاد ودوافعه وعقده.. فماذا بعد؟!
هل تجدي نفعاً بعض المحاولات، كتلك التي قام بها النظام الملكي المغربي قبل سنوات حين جمع بين سجانيين وضحاياهم في مواجهاتٍ متلفزة، كنوع من رد الإعتبار و "عفى الله عما سلف"؟ وهل هي خطوة مفيدة على طريق حَلِّ المعضلة؟ أستعيد وأنا أكتب هذا المقال في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب لقاء طالع العريفي، الشخصية الرئيسية في الرواية الكابوسية "الآن هنا"، مع سجانه "أبو مهند" في أحد مشافي باريس. كان أبو مهند يبدي ندماً شديداً ويطلب المغفرة من الله ومن ضحاياه، لكن العريفي يقول له:
–إنسَ يا أبا مهند أننا كنا في العفير، أحدنا جلاد والثاني ضحية، الأول آمر للسجن والثاني سجين.. أنا نفسي نسيت. ثم يردف بعد ذلك قائلاً:
–لا حاجة لأن تفعل شيئاً يا أبا مهند، فقد كنتَ موظفاً وربما انسجمتَ أكثر من اللازم..
هل ينسى الضحايا جلَّاديهم، وهل يخرج السجين من هيلمان السَجَّان حتى لو استعاد حريته؟ هل تنتهي المأساة هنا؟
تنطوي كل هذه الأسئلة على محاولةٍ لنزع هذا السلاح الفتّاك، من يد النظام السوري وغيره من الأنظمة الديكتاتورية حال فهمه وبالتالي تطويعه، وهذا هدفٌ لا زال بعيد المنال فيما يبدو. ومن جانب آخر، أرمي من وراء ذلك إلى التذكير على الدوام بأكثر وجوه المأساة السوريةِ قتامةً.
ما معنى أن يكون المرء مسلوب الإرادة تماماً في حضرة أحدِ هؤلاء القتلة؟ ما مدى ضعفه وتأهّبه المُترَع بالقلق وهو ينظر إلى ذلك الإنسان-الآلة "المبتسم"، مترقباً غياب ابتسامته في أية لحظة وتحوله إلى كائن قد يُعذَّبه حدَّ الموت ويمضي..وكأن شيئاً لم يكن!

ليفانت نيوز، يونيو 26, 2020

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق