الأحــوازي

بقلم: ماري تيريز كرياكي

كان يومًا شاقًا وطويلا فقد قمت بالترجمة لما يقارب العشرين شخصًا أغلبهم من السوريين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين، أما آخر شخص لهذا اليوم فكان رجلا في الأربعينيات من عمره من الأحواز.

كنت قد قرأت عن أن الأحواز منطقة عربية محتلة؛ ما زال سكانها يتكلمون العربية رغم كل محاولات الدولة التي احتلتها رفض هذه اللغة وإجبار سكانها على التكلم باللغة الإيرانية، لكنني لم أتوقع أن أصادف أحد سكانها.

دخل الرجل مترددًا وكل شيء فيه ينبئ عن الحزن والخوف الذي رأيته جليًّا في عينيه الواسعتين وفي حركات جسده المرتجفة. ضغطه المستمر على يديه يدل على قلقه وعدم إحساسه بالأمان.

لم يكن يتوقع أن يسمع أحدًا يتكلم العربية. وكذلك لم يتوقع الطريقة التي بدأت بها الكلام لطمأنته. ونجحت في أن أهدِّئ مخاوفه، وأكدت له بأن لا داعي لخوفه أصلاً؛ فقد وصل إلى بر الأمان ولن يقوم أحد ما بإزعاجه.  وشرحت له أن هذا التحقيق الذي سيجريه المسئول الأمني الهدف منه معرفة بياناته الشخصية، وسبب طلب اللجوء إلى هذه البلاد، وأيضا للتأكد من طريقة وصوله إلى أوروبا.

اسمك: محمود الأذرعي

مواليد: 1977 الأحواز

البلد القادم منه:  تركيا

لماذا تركت بلدك؟

أجاب محمود: الانتفاضات في بلدنا لا تتوقف، إذ لم يعد لدى الناس القدرة على تحمل الأوضاع الصعبة، فقر وحاجة، ولا أمل في تحسن الأوضاع؛ إضافة إلى ضياع الحلم بعودتنا إلى حضن بلادنا العربية.

في يوم من الأيام قام الشباب في بلدنا بمظاهرات عارمة واحتجاجات دامت لعدة أيام. وكالعادة قمعت هذه المظاهرات من قبل رجال الشرطة والأمن والمخابرات وأعقبها القصف بالطائرات والمدافع على بلدتنا. مات الكثيرون وتشرد الباقون. وأنا واحد من هؤلاء الناس.

أصاب صاروخٌ بيتنا، وقد كان بيتًا عربيًا مؤلفًا من طابقين وفيه عشر غرف.  وكان يسكنه أبي وأمي وإخوتي الأربعة وأنا وعائلاتنا؛ نساءً وأطفالاً؛ أي بالمجمل كان عددنا واحدًا وعشرين شخصا بين بالغين وأطفال.

كنت صباح ذلك اليوم في السوق أشتري الخبز للفطور، ولما بدأ القصف عدت مسرعًا إلى حارتنا. غبار ونار ودخان ودمار عارم؛ بحيث إنني لم أعرف بيتنا الذي تهاوى، وظننت للوهلة الأولى أنني قد أخطأت في المكان وفي العنوان، ولم أكن أتوقع حجم المصيبة التي ستعصف بي. صرت أركض يمينًا ويسارًا. صارخا كالمجنون ومناديا على أفراد عائلتي وسائلا من حولي إن كان هذا البيت المتداعي بيتي. والكل يركض محاولاً معرفة إن كان هناك ناجون تحت أنقاض البيت.

مرَّتْ لحظات واستوعبت بعدها أن هذا المنزل المتداعي منزلي. حاولت إزالة الحجارة المتداعية بيدي لانتشال جثث عائلتي؛ مع أمل ضعيف في العثور على أحدهم وهو على قيد الحياة. لكن مع الأسف الكل توفي؛ أو بالأحرى استشهد في لحظة واحدة.

تابع دامعًا، هي لحظة.. لحظة مميتة فقدتُ فيها كل أفراد عائلتي شيوخًا وأطفالاً.. رجالاً ونساءً.. عثرت على رفاة زوجتي بين الأنقاض محتضنة طفليَّ؛ محاولة منها لحمايتهما. صورتها لا تفارق خيالي وتأتيني في كوابيسي التي لا تنتهي حتى بت أخشى النوم إذ كلما أغمضت عينَيَّ تراءى هذا المشهد أمامي.

وحده صوت حمارنا أعادني إلى الواقع.. ما زال على قيد الحياة ولم يمت.. حضنته وبكيت.. وفرحت كثيرا وشكرت الرب على سلامته؛ إذ إنه الوحيد الذي بقي لي من أفراد عائلتي.. ويا سبحان الله.. كانت عيناه الكبيرتان تدمعان وكأنه أحس هو الآخر بالمصاب الأليم الذي ألمَّ بي.

تابع محمود كلامه قائلاً بصوت متهدج: أيامٌ مضت وتلتها شهور، وأنا ورفيقي الحمار نكافح لكي نعيش يومًا بيوم.. لا عمل ولا منزل ولا أصدقاء ولا أي شخص يمت لنا بصلة قربى بقي لنا في هذه البلدة المشئومة. وضاقت بنا الحياة، وبقي لدينا خيار وحيد؛ ألا وهو الرحيل.. والرحيل إلى أي مكان بعيدا عن هذا الجحيم.

كان قرارًا صعبا؛ خاصة وأنني لم أخرج في حياتي من بلدتي، ولكنني عقدت العزم على أن أجد مكانًا آمنًا لي وللحمار، مكانًا نعيش فيه بكرامة، لا نريد الكثير، يكفينا القليل، عمل بسيط وطعام كاف وسقف فوق رأسينا، والأهم ألاَّ نعيش بخوف.

صممت على أن تكون وجهة سفري إلى أوروبا، لأنني فكرت بالدرجة الأولى بحماري إذ إنني سمعت أن في أوروبا جمعيات تساعد الحيوان وترفق به، وكما ذكرت سابقا؛ حماري هو الوحيد الذي بقي لي من عائلتي وعلي أن أرعاه. وقلت في نفسي إن بلادًا ترفق بالحيوان لا بد لها أن ترفق بالإنسان أيضًا، أن ترفق بعبدكم المنكوب الجالس أمامكم.

ركبت الحمار وجمعت ما تبقى لي من مال وما تيسر من طعام وبدأت المسير إلى الداخل الإيراني، ومنه إلى الحدود الإيرانية التركية. وصلنا ليلاً إلى قرب الحدود. في ليلة كان القمرُ فيها كاملا وكبيرًا وكأنه أراد أن ينير دربنا وأن يخفف وطأة العتمة التي تحيط بي وبصديقي الحمار.

تابعنا المسير محاولين تجنب النقطة الحدودية الرسمية. وسرنا في طريق متعرج في الجبال، ولم أكن أعلم أن الطريق الذي سلكته هو نفسه الطريق الذي يسلكه عادة المهربون؛ وخاصة تجار المخدرات؛ وأن هذا الطريق عليه مراقبة شديدة وحراسة مستمرة من قبل حراس الحدود الأتراك.

فجأة علا الصوت مناديا بلغة لم أفهمها، حاولت الاختباء إلا أن كاشفات الضوء رصدتني، ومع ذلك حاولت مع صديقي التواري خلف الأشجار ولم ننجح. رفعت يديَّ مستسلمًا إلا أن رصاص شرطة الحدود كان أسرع. أصبتُ في كتفي وأصيب صديقي. زحفت نحوه وأنا أناديه، لكنه لم يتحرك.. هززته بيدي ولم يتحرك.. لم أصدق أنه مات.. عانقته.. وأصابتني هستيريا من البكاء.. لم أعد أعي ما يدور حولي.. ذهب الحمار وأخذ معه ما تبقى من روحي.. ذهب صديقي الوحيد المتبقي لي في هذه الدنيا.. بكيته ورثيته ونُحتُ عليه.

لم أصحُ من ألمي إلا بعد أن حاول حراس الحدود مساعدتي في الوقوف. وقد بكى كثيرٌ منهم على حالي. أُخذت إلى المشفى؛ الذي غادرته خلسة لأتابع طريقي من تركيا إلى اليونان بحرًا، وبعدها إلى بلدان عدة حتى وصلت إلى النمسا.

دموع الرجل.. لامست قلبي وقلب الضابط المحقق ولم نتمالك أنفسنا وبكينا مع الرجل.. لحظات بدت لنا كدهر من الحزن.. طلبنا قهوة للجميع.. وانتهت المقابلة.

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق