مملكة آدم

بقلم: أمجد ناصر

أنا نبيٌّ من دون ديانة ولا أتباع. نبيُّ نفسي. لا أُلزمُ أحدًا بدعوتي، ولا حتّى أنا، إذ يحدثُ أن أكفر بنفسي، وأُجدِّفَ على رسالتي. نبيّ ماذا؟ ومَنْ؟ لا أعرف شيئًا في هذه الظلمة التي تلفّني. لا أحمل صليبًا على ظهري، وليس لي ناقة تنشقُّ من الصخر. أتلمَّس طريقي بالضوء الصادر من عينَيَّ، ولا أرى يدي التي تُلوِّح لجموعٍ وَهْميةٍ، تموجُ تحت سفح الجبل. 

 

لا تقولوا إنه الموعدُ،

لا تقولوا إنه مكتوبٌ،

لا تقولوا إنَّ في ذلك حكمةً لا تدركُها أبصارنا، فليس هذا وقت أولئك

الأطفال الذين يتعلَّقون، برعبٍ، بأذيال أمّهاتهم.

فقد كان الوقتُ أمامَهَم غير أنَّ أحداً قرَّرَ أن يأزفَ الوقتُ، ولم يكن اللهُ،

ولا عزرائيلُ،

لا تحمّلوه فوق حِمْلِه الثقيل..

كلا.

كان هناك وقتٌ.

كان هناك.

كان.

بيد أنَّ ثمّة مَنْ يلعبُ بالتواريخ والأرقام في رزنامة الرّبّ الكبيرةِ، ليس إبليسَ، يكفيه منفاهُ الأبديُّ بين الطُّغاةِ والخاطئين. هناك مَنْ يستغلُّ قيلولةَ اللهِ، ليلعبَ بالتواريخ والمصائر.

على أحدٍ أن يَسْكُبَ ماءً باردًا على جبينه الهائل،

على أحدٍ أن يرفع هذه الغرَّةَ الضخمةَ عن عينَيْه، ليرى ما يجري هناك

في مملكة مخلوقِه آدم.

صوت 1:

عالِجوني بروح الخردل

والأياهوسكا

والداتورة،

بالسّذَّاب السوري

والحداء الذي يشبه بكاء الجِمال

لأصعد إلى السماء الخامسة

حيث قَدَمُ اللهِ المتشعّبةُ تغسلُها النوايا الطَّيِّبة

وأيدي الحور العِين.

*

عبثًا تدفنُ رأسكَ بين الجموع،

قفْ

انظرْ

وَلِّ ظهركَ

لا فرق.

لا شيء يُغيِّر اتّجاه الريح التي تهبُّ مُثلجةً

ولا السياط التي تجلد كائنات أسمع صرخاتها، ولا أراها.

قفْ

انظرْ

لا شيء يُغيِّر اتّجاه الريح التي تهبُّ قارسةً

ولا هرولة الأشجار عاريةً أمام الجميع.

V

(إلى الأب باولو دالوليو)

قلْ لي ماذا تفعل هنا، أيّها الغصنُ المنحني؟

كيف وصلتَ بين الأكفان البيض وأشجار الكوبالت

إلى مآدب الضباع؟

هناك عيون تراكَ ولا تراها

تنقل الصورة السالبة لشكل الركعة

وترسلها إلى طوطم التمر.

اللهُ

الذي عبدناه طويلاً تخلَّ عنا في هذا الليل / التيه

ولم نعد نرى له أثرًا في سماء النجيع.

الساعات هنا تتوقّف عن العمل

والقلب عن القصيدة الطويلة التي ضخَّ فيها دمًا كثيرًا.

اذهبْ مثلنا في التيه

ادخلْ في هذا الليل الأرقط،

فلن تصادفَ في النواحي،

آلهةً ولا أبطالاً مثلما في الملاحم

وحكاياتِ ما قبل النوم،

فلم تعدْ هذه الصحراء،

التي جئتها بيَدَيْن مرفوعَتَيْ

تُنجبُ أنبياء،

لقد أفرطتْ في ذلك من دون أن يستطيع هؤلاء

انتزاع الوحش الكامن خلف القفص الصَّدريِّ لأبناء آدم.

اسمحْ لي، إذنْ، أن أقول لكَ:

لا الملائكة ولا الشياطين

بقادرين على وقف نواعير الدم

التي تديرها أرواحٌ شرّيرةٌ من مكانٍ مجهولٍ،

فلا تفكِّر بإلياذة هوميروس

بل بجحيم دانتي

غير أنكَ لن تحتاج فيرجيليوس

ليصحبكَ في رحلةٍ بين الأشلاء والأنين،

فأيُّ رَجُلٍ بساقٍ خشبيّةٍ

أو طفلٍ بيده رغيفُ خبزٍ جافٍّ

وعلى خصره مسدّسٌ بلاستيكيٌّ،

يستطيعُ الطواف بكَ في دوائر الجحيم التسع

لكنكَ لن ترى طغاةً ومُرابينَ

أو مُبدِّديْ أرواحٍ، وجَدَتْ نَفْسَها خطأ في مرمى النيران،

بل وجوهًا امَّحت ملامحها،

وأجسادًا فقدت أطرافها

وأشجارًا تلتهمها النيران، لكنها لا تحترق.

قد تفكِّر أنكَ في الآخرة،

وهذا خطأٌ

فأنتَ لا تزال في الحياة الدنيا

ولكنْ، تشابهتْ عليكَ الصور،

سترى سماءً خفيضةً

تتساقطُ منها البراميل بدل الأمطار

فلا ماء لهذه الأرض المُشَقّقة من العطش.

انظرْ،

الأحصنةُ الحديديةُ تعبُّ الدمَ، وتنفثه من مناخيرها.

عطَشٌ.

هناك أنهارٌ من الدم

بيد أنها لا تروي.

دمٌ وملحٌ.

دمٌ وبلازما.

دم.ٌ

دمٌ.

هذه الأرض مثل كلبٍ شاردٍ تلقَّى ركلةً عى خاصرته من بسطارٍ، فراحت

تعوي وتعوي، ولا شيء يرتدُّ إلا الصدى السيمفوني لآلام.

لا تحتاج درويشاً يدور إلى الأبد

حول الشكل الهندسيّ الأمثل للنقطة

لكي يقول إنَّ مَنْ يشربُ الدمَ يزدادُ عطشًا،

ولا قدِّيسًا،

أو أفَّاقًا بلحيةٍ شيباء،

يصرخ في الجموع التي تتقافز

من طبقة في الجحيم إلى أخرى:

اغفروا لأعدائكم.

*

صوتٌ من الصحراء:

أنا نبيٌّ من دون ديانة ولا أتباع. نبيُّ نفسي. لا أُلزمُ أحدًا بدعوتي، ولا حتّى أنا، إذ يحدثُ أن أكفر بنفسي، وأُجدِّفَ على رسالتي. نبيّ ماذا؟ ومَنْ؟ لا أعرف شيئًا في هذه الظلمة التي تلفّني. لا أحمل صليبًا على ظهري، وليس لي ناقة تنشقُّ من الصخر. أتلمَّس طريقي بالضوء الصادر من عينَيَّ، ولا أرى يدي التي تُلوِّح لجموعٍ وَهْميةٍ، تموجُ تحت سفح الجبل  .

...

لِمَ لا أسمع سوى جمل تتدحرج من الأشداق بلا روابط أو علامات وقف؟

أيُّ لغةٍ هذه التي تتكلمها الأفواه الدرداء؟

هل كنت أعرفها من قبل ونسيتها في هذه اللحظة المداهمة؟

أم لعلها لغة الموتى التي ينبغي عليَّ تعلم أبجديتها الزلقاء من الآن فصاعداً؟

أنظر إلى كفي فأرى أشجاراً مجندلةً،

صحارى،

شرايين جفَّت دماؤها

خطوطاً متعرّجة قد تكون خارطة طريق للخروج من هذه المتاهة الماكرة

التي لا أدري كيف انقذفت فيها.

تَعِبٌ.

جسدي متهالك.

خاوٍ على عرشه الخاوي.

رغم أن بيدي عصا أستند إليها.. لا أذكر أني حملت عصا من قبل، فأنا لست عجوزاً ولا أملك قطيعاً من الغنم، ذلك جدي.

كم دام هذا الصعود المأفون؟

يومًا؟

أسبوعًا؟

عام؟

الله وحده يعلم.

الذاكرة والحواس هنا آلات عقاب أشدّ لؤما من الخوازيق. .أشمُّ رائحة

شراشف بيتنا ووجوه وسائده، وأسمع صوت ساقية عرجاء كاد خريرها يعيدني الى مكان عشتُ فيه سعيداً ونسيت أين هو.

أريد أن أنام. ولكن أين؟ ولا مكان للجلوس عى هذه الحدبة الملتهبة؟ كلُّ

من رأيتهم كانوا يترنَّحون واقفين لكنهم لا يسقطون.. يميلون شمالاً ويميناً كأشجارٍ تلويها رياحُ المَرَدَةِ، ثم يعودون الى الاستقامة.

هذه

هي

الرقصة المخمورة لأرض اللانوم.

أقول لذي العين الحمراء الراقص إلى جانبي:

كأني لم أرَ امرأةً بين هذه الجموعُ التي تموج؟

-ذلك لأن النساء لا يحشرن هنا..

أين إذن؟

لا أعلم.

أرأيتني في كتابٍ معراجيٍّ مخيفٍ كنت أقرأه في بيتي قبل أن تدمره الحرب؟

أم لفَّتني رؤيا كما يُلفّ المحموم بدثارٍ وصعدت بي؟

**

يا أقداري الملتوية كأذيال الكلاب l

يا أفعالي المتحجِّرة

أيتها الكتلة العقاب

انصقلي

لكي أرى وجهي

فقد أخبرني جاري في الرقصة المخمورة أن لي عينين حمراوين وأنيابًا مُصفَّرة

كنت أحب الذئاب وأوقد لها النار في الليل

لكن ليس إلى حد أن أنمسخ ذئبًا أو وحشًا لم يُسمَّ بعد.

بيد أن عيني الحمراوين وأنيابي المُصفرَّة لم تدفع جاري في الرقصة المخمورة إلى البحث عن موطىء قدمٍ آخر على الحَدَبة الملتهبة.

لعله رأى في عمق فمي الذئبي أسنان الحليب التي ربتها أمي بالنذور

والصلوات.

 

الشاعر الأردني أمجد ناصر (1955-2019).  

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح