مينه سويوت.. تفتح باب الخرافة والأحلام في "بناء خمسة سيفيم"


في روايتها "بناء خمسة سيفيم" تفتح الكاتبة التركية مينه سويوت الباب على مجاهل عالم غرائبي فالت من عقال المنطق وتصويبات العلم، يسير وفق منظومة قوانينه الخاصة المبنية على التهيؤات والوساوس، عالم خرافي قوامه قصص الجان والسحرة وتفاسير الأحلام والشعوذات التي يتداولها الناس لتسويغ حياتهم والهروب من واقعهم حين تسود قوى الظلام ويخفت صوت العقل، والرواية هي الاولى لمؤلفتها، وكانت قد نُشرت عام 2003، وصدرت باللغة العربية عن دار قدمس بدمشق من ترجمة بكر صدقي (عام 2008)، أما المؤلفة سوبوت فقد وُلدت في اسطنبول عام 1968، وتخرجت من كلية الآداب، وعملت لمدة عشر سنوات في مجال الإعلام المكتوب والمرئي، قبل أن تتفرغ للتأليف في عام 2000 وتصدر ستة عنوانين، من بينها روايتي "الزمن الأحمر" و"سنة الشهباز الاستثنائية".

في روايتها هذه تستخدم سويوت تقنية تعدد الرواة إلى جانب الراوي الخارجي الذي يفتتح الحكاية بالعبارة: "تخفي النوافذ كل أسرار الحياة، حيوات متواضعة بلا طموحات كبيرة، لكنها تنطوي على معان عميقة، وتنمو بلا حبكة.." والاستهلال الذي يبدأ بأسرار النوافذ ينتقل إلى تفسير العنوان، أي "بناء خمسة سيفيم" البناية المؤلفة من قبو وخمس شقق، يقطن فيها ستة أشخاص، والتي اندلع فيها الحريق ذات صباح حزيراني، فابتلع السكان وأحال المبنى إلى أنقاض في غضون ساعة واحدة، ثم لا تلبث التفاصيل في الفصول اللاحقة أن ترجع في الزمن إلى الوراء، لتستحضر تاريخ البناية وتاريخ سكانها الستة، الواحد تلو الآخر عبر اعتماد مبدأ التأخير والتقديم الزمني وتقنية التقطيع المشهدي. 

وسكان البناية هم شخوص الرواية الأساسيين، يعيشون منفردين كل في شقته الخاصة، ليس فيما بينهم أية اتصالات، ولا هم يتواصلون مع العالم الخارجي، يمضون ساعات النهار أمام نوافذهم، كل في موعده المحدد، ينظرون إلى البحر ويتحدثون مع أشخاص غير مرئيين، إنهم خمس شخصيات غريبة الأطوار، ممسوسة بهلوسات السحر والجان، عانت من إشكالات حقيقية في فترة الطفولة والمراهقة، فأصابها الجنون، وتم وضعها في مشفى الأمراض العقلية، قبل أن ينقلها سرا للعيش في بناء "خمسة سيفيم" الأخصائي النفسي الدكتور صميمي الذي عانى هو الآخر من الإهمال والحرمان العاطفي في طفولته، وعوّض عن حرمانه بمصادقة الجان سرا، ثم قرر محاربتهم والقضاء عليهم من خلال علاج الشخصيات الخمس، وانتهت حربه بحريق أودى بالجميع.

في هذا الإطار العام للحبكة الغرائبية والشخصيات المختّلة تتناول الكاتبة طيفا واسعا من الإشكالات السلوكية والتربوية التي تنمو وسط الشرائح الاجتماعية الميسورة والفقيرة على حد السواء، وتترك آثارها السلبية على مستقبل الأبناء، من مثال: فقدان أحد الوالدين، إهمال الأطفال وتعنيفهم وضربهم، تفضيل الذكور على الإناث، الشجار والخلافات ما بين الأزواج، اللجوء إلى السحر والشعوذة، تعاطي المسكرات والمخدرات، القوادة على الزوجات والدعارة، فصميمي مثلا فقد والده وهو صغير، وتركته أمه عند عمته الثرية، وسافرت إلى أمريكا وتزوجت وأنجبت طفلتين لا تعرفان اللغة التركية، وهذه الأم كانت تزوره على مضض مرة كل عام في العطلة الصيفية، وهذا الحرمان العاطفي جعله منطويا على نفسه، وملأ رأسه بالتهيؤات رغم تفوقه العلمي، أما أوغوز فقد وُلد في السجن لأن أمه قتلت والده الذي كان يجبرها على معاشرة رجال آخرين بسبب الفقر، ويشيم التي عانت في طفولتها من الوحدة وإهمال والديها لها، حين أصبحت في سن الثانية عشر بدأ الجان يغوونها بمعاشرة الرجال، وحين قادتها جدتها إلى الشيخ لفك عمل الجان، باتت يشيم خليلة الشيخ المفضلة.

أيضا إلى جانب إشكالات التنشئة الاجتماعية تقف الكاتبة عند جملة من الأزمات النفسية ذات الصلة بالتشوهات الخلقية أو عقد النقص الشخصية، فأحد شخصيات الرواية قزم، وهو يصف معاناته بقوله: "كلمة قزم هذه التي طوقتني من كل الجهات، وفصلتني عن عالمي الخارجي، عن حب الأم وحنان الأب وفخار الأخ، تلك الكلمة التي ألقت بي في عالم الأقزام، وتركتني وحيدا ككرة تتدحرج أمام المرء ملوثة بالشفقة"، وهناك المرأة الثمانينية التي قال لها والدها وهي صغيرة: "إن صوتها قبيح مثل جسدها" فاختفى صوتها، وفقدت ثقتها بنفسها منذ تلك اللحظة، وهناك الرجل المولع بالكذب الذي كان يغار من شقيقته التوأم لأنها كانت تفوقه في كل شيء، فتمنى موتها، وحين ماتت بالفعل، ارتدى ملابسها، وتقمص شخصيتها، وبات مقتنعا بأنه هي.

تكتمل تفاصيل الرواية ومقولتها بالتوازي ما بين الملاحظات العلمية التي كان صميمي يسجلها في دفتر مذكراته حول عوارض الجنون التي تتلبس مرضاه، وما بين حيوات الشخصيات كما تدركها مخيلتهم ويعبّر عنها صوتهم الخاص، أو كما يسردها الراوي، وبهذه المزاوجة ما بين تقنيتي السرد المتعدد الأصوات والمذكرات تضع المؤلفة العلم في مواجهة الخرافة، وتحاول أن تحيل جميع الاضطرابات النفسية والإنحرافات الخلقية والميول الإجرامية التي يعتقد البسطاء والأميين من الناس أنها مس من فعل الجّان، تحيليها إلى الظروف المعيشية القاسية، وإلى التنشئة الأسرية والاجتماعية المغلوطة، وإلى الخلل في علاقة الأهل بأطفالهم، لتصوغ بهذا ملامح فسيفساء مروّعة عن واقع الجهل والفقر والخوف.

وقد تكون موضوعات الكاتبة مشبعة بالمرارة والألم، وصادمة بقسوتها إلى حد كبير، غير أنها لم تتطرق إليها بخطاب شعاراتي فوقي، بل عالجتها بلغة جميلة ضفافها الخيال والحلم، فاعتمدت أسلوب القص الشعري، وتنوع صيغ الكتابة التي دمجت وقائع السرد، تارة بصيغة المذكرات، وأخرى بصيغة تفسير الأحلام، وثالثة بقصص خرافية، وكل ذلك استطاع أن يضفي على مآسي الحياة ألوان السحر...

"البيان" التقت الكاتبة التركية مينة سويوت بمناسبة صدور روايتها باللغة العربية، وكان لنا معها هذا الحوار...

*بين الأعوام 1990و2000 عملت كمراسلة صحفية وكمعدة برامج تلفزيونية، فما هي مؤثرات هذه التجربة على أعمالك الأدبية اللاحقة؟

**نعم عملت لبعض الوقت كمراسلة لعدد من الصحف ومعدة لبعض التحقيقات التلفزيونية، وأني أجد أن إعداد التحقيقات الإخبارية مهنة تتيح فرصا ثمينة للتعرف على الحياة وللنظر إلى الأمور بآفاق ورؤى مختلفة، خصيصا إذا كان المرء يعيش في بلد مضطرب مثل تركيا، فمن خلال الأحداث التي نتابعها والأشخاص الذين نتعرف عليهم أثناء عملنا الصحفي، نستحوذ على خبرة هامة ما كان بالإمكان امتلاكها بطرق أخرى، لذا فإني اعتبر أن العمل الصحفي كان بمثابة مدرسة بالنسبة لي، تعرفّت عن كسب من خلالها على الناس والحياة، وإذا كان الأدب يتطلب مهارتين: مهارة الكتابة، ومهارة القدرة على الملاحظة والإدراك على مستويات عميقة، فإن الصحافة صقلت مهاراتي ومعارفي وغذتها.

*لفت انتباهي من بين إصداراتك عنوان"عدالت حمجوز/ سيرة مقترحة"، فما الذي تحمله من مقترحات هذه السيرة؟

**هذا العنوان هو اسم كتابي الأول، وهو ليس في أي حال من الأحوال مجرد سيرة ذاتية، فعندما كنت أكتب ذلك الكتاب ضمنته ميولي العاطفية وهواجسي التي واجهتها أثناء بحثي عن تفاصيل حياة عدالت حمجوز، وبالنتيجة أصبح النص أكثر من سيرة، ورغبت في تأكيد هذا الجانب بإضافة لاحقة "سيرة مقترحة".

*بين الأعوام 2003و2007 أصدرت ثلاث روايات، فما هو سر انحيازك الأخير نحو الكتابة الروائية؟

**مع أن كتابي الأول اعتمد بالكامل على الأحداث الواقعية، لكنه في الوقت نفسه اكتسب نكهة الكتابة الروائية عبر بنيته ولغته، وحين بدأت بكتابته، كنت قد وضعت ثقتي الكاملة بخبرتي الصحفية لسبر المعلومات، لكن ما إن انتهى الكتاب حتى أدركت أنه أكثر من بحث توثيقي، وأنه يحمل في طياته ألوان أدبية، وقد دفعني ذلك إلى اتجاه جديد من الكتابة، لم يكن ليخطر ببالي من قبل، وهو الكتابة الروايات. 

*مع روايتك الأولى "بناء خمسة سيفيم" انتقلت من عالم الوقائع والوثائق (عالم الصحافة والتلفزيون) إلى عالم الأحلام والجان والأخيلة الغامضة، فكيف حدث هذا التحول الإنقلابي في كتاباتك؟

**كل القصص المتعلقة بالجان والسحرة والأحلام السوداء في رواية "بناء خمسة سيفيم" تغذت من الحياة الواقعية، وكل الشخوص استقوا ملامحهم من أشخاص مرضى نصادف أخبارهم في وسائل الإعلام، إنها شخصيات تبحث عن مأوى لها في عالم الجان من أجل استحضار بعض المعنى للحياة القاسية التي تعيشها، إنهم لا يستطيعون تقبل الواقع، لذا فهم يلجؤون إلى الغيبيات، وفي الحياة ثمة جسر يربط الجنون بالجان، إن الأرواح المريضة التي ترفض أن تتحسن، أو أنها لا تستطيع ان تعثر على طريق للتعافي، من المحتمل انها ستعبر ذلك الجسر، ثم تضيع في ذلك العالم الأسود الهلامي المليء بالجن الذي هو من صنع مخيلتهم.

*في هذه الرواية حاولت أن تحيلي كل الاضطرابات النفسية والميول الإجراميةا إلى التنشئة الأسرية والاجتماعية، فهل تطلبت منك التفاصيل الخاصة بالجنوح والجنون العودة إلى دراسات علم النفس؟

**كما ذكرت آنفا، الناس يبنون معتقداتهم الماورائية في حياتهم كشكل من أشكال الهروب من الواقع، وعبر التاريخ مرض الجنس البشري حين لم يكن بمقدوره التعامل مع الحقيقة، وبحث عن الشفاء في التهيؤات والوساوس، من هنا كانت النزعة في منظومة المعتقدات البدائية، كما هي في الديانات التوحيدية وغير التوحيدية، النزعة لشرح الجنون عبر الجان وغيرها من الكائنات غير المرئية، لكني كأي شخص يدرك الحياة فقط من خلال النظرة العقلانية، أرى أن مثل هذه النزعات هي بمثابة موروثات، وأحاول العثور عن إجابات لتفسيرها في العلوم الطبيعية، وفي روايتي أوليت انتباهي بالكامل إلى هذا الجانب، فمع أن صميمي هو دكتور، فإن رأسه كان مثقلا بالخرافات والتهيؤات، لأنه قد عانى من مشاكل عائلية في طفولته، إن معضلته تبدو وكأنها ماثلة في قصص الجان والسحرة التي ابتلي بها العالم، لكنها في الواقع تتغذى من مشكلات الحياة الواقعية، وجميع مرضاه الممسوسين يعانون من اضطرابات سيكولوجية مشخصة من الناحية العلمية الطبية. 

*على الرغم من خشونة موضوعات الرواية فقد حاولت أن تطل على القارئ منذ الصفحة الأولى بلغة شعرية جميلة، فهل هي محاولة لجذب القارئ أم ماذا؟

**عندما اكتب أحب ان استعمل لغة حكايات الجان والأساطير، هذا يساعد في الوصول إلى القارئ، مهما كان موضوع الرواية قاسيا، واقصد بتلك اللغة مثلا: ملك قاس، شعب يعاني، طفل برئ، زوجة اب عنيفة، ذئب مخادع، شعب خدوم، وكل المقدمات العاطفية التي ترمز إلى حالات واقعية من الحياة، وبفضل هذه الرموز فإن الحكايات تحدثنا عن الحياة التي نعيش، وانا احب استخدام هذه اللغة، وحين اكتب رواياتي بها يتحول فعل الكتابة إلى لعبة بغض النظر عن خشونة العالم الذي يمكن أن أخلقه، هذا يشعرني أنا والقارئ في آمان اكبر.

*في روايتك مجموعة من الشخصيات الغريبة الأطوار والممسوسة التي ترعرعت في ظروف اجتماعية صعبة، فما هي مرجعيات هذه الشخصيات على أرض الواقع، وكيف قمت ببنائها والتعامل معها على الورق؟

**في الحقيقة هم اناس نراهم كل يوم، بعضهم يعيش معنا في الحي ذاته، وبعضهم في السجن الآن، أو في المشافي، إننا نقرا قصصهم في الصحف، ومن الممكن ان يكونوا احد أفراد عائلتنا، وهم ليسوا بحال من الاحوال بعيدين عنا، أو أننا لم نعرفهم أبدا، إلى ذلك إذا كنت فردا في مجتمع خائف وأمي، فإنك تعيش بين اناس سوف يفسرون كل مشاكلهم النفسية على انها من أفعال الجان، هذه هي الحالة التي تسود البلاد التي أعيش فيها، مع العلم انها ليست في دائرتي المباشرة، لذا فلم يكن امرا صعبا علي اكتشاف هؤلاء الناس، والتعرف عليهم وتوظيفهم كشخصيات روائية في كتابي.

 

دمشق: تهامة الجندي

صحيفة "البيان" الإماراتية، ملحق "بيان الكتب" 29 حزيران 2008

 

*رواية "بناء خمسة سيفيم/أكاذيب عن الجان مرفقة بتفسير أحلام"، 156 قطع متوسط ، المؤلفة: مينه سويوت، الترجمة: بكر صدقي، الناشر: قدمس/ دمشق 2008

*حواري مع الكاتبة التركية مينه سويوت تم عبر البريد الإلكتروني وباللغة الإنكليزية، بمساعدة الناشر د. زياد منى الذي تولى الترجمة. 

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق