صادق جلال العظم.. في الحب والحب العذري

في ذكرى رحيله

كثيرة هي الأدبيات العربية التي تناولتْ ظاهرة الحب وسير العشاق في تاريخنا القديم والحديث، لكن كتاب المفكر السوري صادق جلال العظم[1] "في الحب والحب العذري"[2] الصادر عام 1968، كانت له الريادة في مناقشة هذه الظاهرة وأشكالها المختلفة من وجهة نظر علمية بحتة، تتماشى مع روح العصر وتوجهاته، وكان أول من تجرأ وربطَ الحب بفاعلية الجسد، وأكد على أن تلازم هذان الجانبان دليل على الصحة النفسية، ولم يفرق في ذلك بين رجل وامرأة، بل رسم تصورًا متكاملًا لعلاقة إنسانية تقوم بينهما دون قسر أو قهر أو أية اعتبارات أخرى غير دوام الحب.

تبدأ فصول الطبعة الجديدة بمقدمة الكاتب محمد كامل الخطيب، وفيها يلقي الضوء على الإسهام الفكري للعظم في مجال الفلسفة منوهًا إلى أن قيمة هذا المُفكر لا تتأتى فقط من كونه ابن الأسرة الدمشقية المحافظة الذي عارض المؤسسة والأفكار التقليدية، بل لكونه كان واحدًا من جملة مفكرين وكتَّاب أمثال سمير أمين وفؤاد زكريا وياسين الحافظ وعبد الله العروي والياس مرقص، وغيرهم ممن وضعوا الفكر العربي الحديث على طرق جديدة بإدخال الفلسفة والتفكير الفلسفي في صلب الواقع اليومي، بل ورفع الواقع اليومي إلى مستوى التأمل والمناقشة الفكرية والفلسفية العقلانية، وقد كان هناك فيلسوفان في أوروبا قاما بمثل هذه الخطوة قبل هؤلاء، هما برتراند رسل في بريطانيا وسارتر في فرنسا، ويختم الخطيب مقدمته مؤكدًا ما جاء فيها بقوله إن كتاب "في الحب والحب العذري" ليس مجرد موضوع تراثي عاطفي فلسفي أو نفسي، بل هو موضوع يومي حياتي قديم جديد ومستمر.

التركيب والظلال

يفرد الدكتور العظم دراسته ضمن أربعة فصول تبدأ بالتمهيد، وتنتقل إلى مفارقة الحب، وتستمر في الحب العذري، وتنتهي بخواطر أخيرة، وفي التمهيد يلقي الضوء على الجوانب الأساسية التي تعبِّر عنها ظاهرة الحب -موضوع الكتاب- حيث يرى أن الحب ظاهرة مركبة ومعقدة ومتشعبة المناحي والظلال، فهي تشير إلى أطياف من المشاعر والأحاسيس والانفعالات المتقاربة المتشابهة المترابطة ترابطًا عضويًا في النفس الإنسانية، يدخل في عدادها الشهوة والميل والنزوع إلى امتلاك المحبوب بصورة من الصور، والاتحاد به بغية إشباع هذا النهم وتحقيق الشعور بالرضى والاكتفاء، بحيث يرتبط الحب ارتباطًا مباشرًا وأساسيًا وعضويًا بالشهوة الجنسية وبسعيه لإرضائها، لكن على خلاف الرغبة الجنسية المحض التي تعتبر جميع الموضوعات الجنسية سواء بسواء، طالما أنها تزيل توترها وتخفف من حدة هياجها، فإن الحب يميِّز وينتقي ويفرِّق، وهو يزدهر بعد العبور بمرحلة الانجذاب الجنسي، وتخطيها إلى ما هو أهم وأرفع وأكثر تعقيدًا.

كذلك يرى العظم أن الحب انفعال تلقائي وعفوي بالنسبة لمصدره وبواعثه، يجيش في قلب الإنسان دون تكلف أو جهد خاص، وهو ليس مجرد انفعال سلبي، بل يتصف بطابع حركي، يميل بالعاشق نحو الفعل المستمر والنشاط الدائم والسعي للاتجاه نحو المحبوب، كما أنه انفعال لا يخضع لاعتبارات التذكير والتأنيث، أيضًا يشير إلى أن الحب الذي ترك أثرًا هامًا في تاريخ الإنسان وأدبه وفكره، يتميز بكونه حبًا شقيًا تعيسًا بائسًا، ويغني العظم ما ذكره بالعديد من الشواهد الأدبية والتاريخية، منها مثلًا ما كتبه المسرحي اليوناني القديم سوفوكليس عن حقيقة الحب: "الحب ليس وحده الحب/ ولكن اسمه يخفي في ثناياه أسماء أخرى متعددة/ إنه الموت والقوة التي لا تزول ولا تحول/ إنه الشهوة المحض الجنون العاصف والنواح...".

مفارقة الحب

في هذا الفصل يوضح المُفكر أن الحب عاطفة تقوم أساسًا على التناقض والمفارقة، فعاطفة الحب كغيرها من المشاعر والانفعالات الإنسانية تتصف ببعدين رئيسيين: الامتداد في الزمان، أي دوام الحالة العاطفية، والاشتداد أي مدى عنف الحالة العاطفية وحدتها في لحظة ما من الزمان، والمفارقة تأتي من أنه كلَّما امتد الحب، كلَّما خفتْ حدته باتجاه يقترب باستمرار من درجة الصفر كحد أدنى، وإذا كانت نزعة الامتداد تتجسد في الزواج، فإن نزعة الاشتداد تتجسد في "المغامرة العاطفية"، وهنا تعمل شريعة الامتداد متضافرة مع الأخلاق السائدة والقيم الدينية الشائعة والمؤسسات الاجتماعية على كبت نزعة الاشتداد، وفي هذا السياق يعتبر الباحث أن الشخصية الدنجوانية هي المثال الأسطع على نزعة الاشتداد، فحياتها ليست إلَّا محاولة مستمرة للبقاء بالحب في مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد، فهي شخصية تتصف بالتقلب السريع والاستجابة المباشرة للمثيرات العاطفية والغرامية، في حين تعارض شريعة الامتداد بجميع قيمها ومعاييرها وخصوصًا الزواج والعلاقات العاطفية المستقرة، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، وهنا يميز العظم بين هذه الشخصية الدنجوانية، وشخصية من تتيح له ظروفه الخاصة الاستمتاع بالحب، فيعتبر أن الخليفة المتوكل الذي وطأ أربعة آلاف جارية على سبيل المثال، ليس دونجوانًا بل رجلًا فاجرًا، لأن ثمرة الدنجوان لا تأتيه طائعة خاضعة لا حول لها ولا قوة أمام سلطانه وجبروته، بل تأتي بملء إرادتها ورغبنها نتيجة ظفر جهوده ومساعيه ومخططاته.

الحب العذري

بناء على المُقدمات السابقة ينتقل الفصل الثالث من الكِتاب إلى دراسة ظاهرة الحب العذري الذي درجَ الكتَّابُ العرب القدماء والمحدثين منهم على نسبته إلى قبيلة بني عذرة التي اشتهرت به، ويعتبر المؤلف أن سيرة جميل وبثينة الشهيرة، هي قصة نموذجية لدراسة هذا النمط الغريب من الحب، حيث أن جميلًا لم يكتم حبه لبثينة رغم إدراكه أن العادات والأعراف القبلية كانت سوف تحرمه من الزواج منها أو رأيتها مدى الدهر، وبثينة التي تزوجتْ من رجل دميم أعور، لم تعش معه طيلة حياتها، واستمرت في علاقتها بجميل، وهذه العلاقة ظلتْ في إطار اللقاءات السرية والتناجي، ولم تصل أبدًا حدود الجسد، وعليه يستنتج العظم أن العشق العذري محاولة لمواجهة مفارقة الحب الكبرى والتغلب عليها باختيار نزعة اشتداد الحب عن طريق رفض العلاقات العاطفية الدائمة المستقرة بين العاشقيّن، وبالتالي فهو تعبير عن حالة مرضية متغلغلة في نفس العاشق، تتبين في ولعه بسقمه وهزاله وحرمانه، وتلذذه بألمه وشقائه وتعاسته، واستمتاعه بحرقة الشوق الذي لا أمل في إشباعه، فهو حب لا يخلو من خصائص السادوماسوكية من حيث أنه ميل واضح لتعذيب النفس والغير، أي الحبيب، دون سبب واضح، وهو خلاف للآراء الشائعة حب شهواني في أصله ونرجسي في موضوعه ومنحاه، لأن اهتمام العاشق وهيامه ينصبان على ذاته ومشاعره وأحاسيسه وخياله، لا على شخص الحبيب، وبهذا فالحب العذري لا يرتفع إلى مملكة الروح، لأن السبيل إليها يمر بمملكة المادة والجسد، والعاشق العذري يؤجل بنفسيته المريضة المرور بمملكة المادة إلى الما لا نهاية، وحكايات الحب العذري تُمجد الحب خارج نطاق الرابطة الزوجية، ولا تؤاخذ العاشقين على حبهما الزاني، وتستهزئ بالزوج، كما أنها تروي لنا أخبار أفعال وأعمال تخالف جميع الأعراف والتقاليد السائدة، وتمزق القيم الأخلاقية المعمول بها، وتناقض المؤسسات الاجتماعية المستقرة، ولكن يستدرك العظم في نهاية مقاله فيؤكد أن اعتبار الحب العذري ظاهرة مرضية في أساسها، لا يعني الحط من شأنه التاريخي، ولا الإنزال من أهمية العشاق العذريين الكبار أو الأدب الذي أُنتج حولهم.

خواطر أخيرة

في نهاية دراسته يقرر العظم أن إيجاد حل نهائي لمفارقة الحب أمر مستحيل، لكن الاتجاهات العصرية التي تتصف بالعلمانية والنظرة الموضوعية إلى الكون والإنسان والحياة، تسعى للتخفيف من وطأتها بتحرير عواطف الفرد من القيود المفروضة، والآراء الدينية والأخلاقية والاجتماعية المسبقة التي ورثناها، فهي تسعى إلى تحقيق ثلاث غايات، أولها: خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تؤدي إلى تحرير العواطف والانفعالات، وثانيها: تحرير الجسد من النظرة التقليدية التي كانت تربطه بالخطيئة والتهلكة والشهوة الحيوانية، وثالثها: تحرير الرابطة الزوجية من قيودها التقليدية وارتباطاتها الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية، والاتجاه بها من مؤسسة خاضعة في كل تفاصيلها للعُرف الاجتماعي وشريعة الامتداد، إلى علاقة لا تقوم إلَّا على أساس الاختيار الحر والمتكافئ بين الطرفيين المعنيين، علاقة تستمر بدوام الحب وتنفك بزواله، فالاتجاهات العصرية قد استغنت عن الأسرة كوحدة إنتاجية، وأصبح المجتمع بمؤسساته وأجهزته يحمل جميع الأعباء التي كانت تحملها الأسر سابقا من تأمين العلم والدواء والعناية الصحية وحماية الضعيف والمسن والعاطل واليتيم.

 

تهامة الجندي

دمشق ‏‏‏08‏‏/‏01‏‏/‏2004‏



[1] صادق جلال العظم (1934-11 ديسمبر 2016)

[2] صادق جلال العظم (2004) "في الحب والحب العذري"، دراسة تقع في 155 صفحة قطع صغير، تقديم محمد كامل الخطيب. إعادة طباعة وزارة الثقافة/ سلسلة مختارات، دمشق، سوريا. 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق