وجدي معوَّض.. وحيدون

لقطة من مسرحية "وحيدون" لـ ودي معوض

هل الكتابة شكل من أشكال الإرادة الحرّة، أم أنها الاسّتلاب بعينه... الانصياع وراء هاجس غير مدّرك... هل هي نعمة، قبّس من السماء، أم أنها لعنة تتبعك مدى الحياة... هل هي الهدم أم البناء... عالم الخلق أم عزلة الكاتب...؟ ما الذي يحدث حين نبدأ بتدوين المفردات والأفكار...؟ كيف تتفاعل الذاكرة الشخصية بذاكرة الجموع في تضاعيف النص، وكيف يغوص العقل في سراديب الباطن...؟ هل اللغة وطن، هوية، انتماء... أم أنها العبث، السّراب الذي ندرك في مراياه تداعيات عجزنا...؟

الأسئلة تبدأ ولا تنتهي... تستدرجها سيرة الكاتب مع نصه في مسرحية وجدي معوّض "وحيدون" التي قُدّمت باللغة الفرنسية على مسرح "مونو" في ختام أمسيات مهرجان "ربيع بيروت"، أسئلة يسبقها الاستفهام عن سرّ استخدام صيغة الجمع في العنوان، مع أن العرض يدور بضمير المتكلّم، حول شخصية مفّردة، وسيرة بذاتها... من هم، ولماذا هم...؟ وحين نمعن النظر بالتفاصيل، ندرك أن الوحيدين هم الكتّاب ...أن الفضاء المسرحي يبدأ من العنوان، من انزياح الشخصي على العام.

حروان كاتب في الخامسة والثلاثين من العمر، يعدّ أطروحة دكتوراه، تزيد عن ألف صفحة، حول المخرج والممثل المسرحي الكندي روبير لوباج، إنها باختصار قصة العرض وشخصيته الوحيدة، التي تتماهى إلى حد كبير مع شخص وجدي وسيرته الذاتية، أما ماعدا ذلك من تفاصيل المشهد، انتقالات الزمان والمكان، تقلّبات المناخ، التواتر الدرامي، الأسئلة... الكل يحّدثه فعل الكتابة بمستوياته المختلفة: من الخارج إلى الداخل، ومن الظاهر إلى المستبطن في مسارب التقصي عن المعلومة والواقعة، البحث عن المفردات والمعنى، حركة الأفكار، التداعي، التخييل، استدعاء خزين الذاكرة، دفق المشاعر، تشذيب اللغة، صراع الكاتب مع نصه، حين يبدأ باتخاذ كينونته المستقلة...

وعلى يد كاتب العرض ومخرجه وممثله وجدي معوّض، تتحول لحظة الخلق إلى جملة من المركّبات الحركية، المنولوجات الداخلية، المعادلات البصرية، حكايا داخل الحكاية، تشكيل داخل المسرح... ويتحول الفضاء المسرحي إلى خلطة سحرية من كل الفنون، تتفاعل وتلقي بظلالها ومؤشراتها على المتن العام... إنه يمسّرح الكتابة، حركة الحروف... يدخل الجمهور إلى أتون التجربة...

يبدأ المشهد الاستهلالي بترجمة حالة المخاض التي تعتري المؤلف، قبل أن يعتلي نصّه حيّز الصفحات: وقوف الكاتب أعزلا، عاريا أمام مفردات متضاربة في رأسه... أمام معنى غامض لم يفصح عن هيكله بعد، شروده، هياجه، تحديقه باللامرئي، ذهابه وإيابه في أرجاء المكان، استلقاؤه، ولوجه عتباته السّرية في سرداب اللاوعي، ولوج يتمرأى على شاشة ضوئية كأنها جدار شفاف، فيه نافذة محجوبة بستار، يدخلها طيف الكاتب، يخرج منها، يمشي على الجدار ممسكا بسكين، ترغب ربما باغتيال النص أو صاحبه... هي شاشة العقل الباطن، تعرض شريط الأفكار، التصورات والنوازع الخفية... 

مخاض عسير من شروطه العزلة المطّبقة إلى أن تولد الكلمات... وهنا تبدأ إشكالية الكاتب مع الوسط المحيط: "الآخر هو الجحيم" على حد تعبير سارتر، وعليه تبدأ أولى حكايا العرض، حين يرن الهاتف ويقطع التركيز وسلسلة الأفكار، صوت الوالد، الأخت، الالتزامات الاجتماعية، نداء الواجب... يربك الذات الكاتبة، يدخلها في صراع مع شرطها الاجتماعي، لتبرير انكفاء تراه من طبيعة الأمور، ولا يفهمه الآخرون، يعتبرونه ضربا من تبديد الوقت والحياة.

المكالمات الباردة مع الأهل، تقود مخيّلة حروان باتجاه اختلاق حكاية دخول أبيه في غيبوبة، وأمام سرير المرض، تتدفق ذاكرة الطفولة، تنفتح على اللغة الأم (العربية)، وعلى الحرب الأهلية في لبنان، حين اضطرت الأسرة إلى الهرب واللجوء إلى كندة، وقبل الهجرة كان ابن الثامنة يحصي النجوم في حديقة بيته في دير القمر، وكان والده يحذره من ظهور الثآليل على الأنامل التي تحصي، فيرسم نجومه على الأوراق خوفا من المجازفة...

حضور اللغة المفكّكة من وطأة المسافات وطول الزمن، حضور ذاكرة الخوف التي أرستها التربية الصارمة وبشاعة الاقتتال، حضور يشيع مناخا ساخرا في المشهد الجديد، يختلف تماما عن سابقه المشّبع القلق، والسخرية السوداء تثير أسئلة الانتماء والهوية في ظل جنسيتين ولغتين مختلفتين... كيف نتقمص الآخر، ونكتب بلغته...إلى من ننتمي، إلى الأصل البعيد، أم الطارئ الذي احتل الوجود...؟! والأسئلة تظل حائرة، معلّقة، بلا أجوبة مقنعة، تستدرج أغنية عبد الوهاب: "انا من ضيّع بالأوهام عمره".

الانتقال بين المشاهد، لا يحدث بالإظلام وتغيير الديكور والملابس، مثلما هو متعارف عليه، الإيحاء واستغلال شرطية المسرح إلى أبعد مداها، هي وسيلة العبور، الممثل يبدّل زيّه أمام الجمهور، يفتح بابا في خلفية الخشبة ويغلقه، يحرّك الأغراض التي يحتاجها إلى المقدمة أو إلى إحدى الزوايا، تتغيّر بؤر الإضاءة، ألوانها... ويبدأ المشهد الجديد... المؤلف يسافر إلى روسيا للقاء روبير لوباج واستكمال اطروحته، من غرفته يسّتفسر بالهاتف عن إمكانية اللقاء، ويعلم أنها معدومة، أستاذه غادر إلى الولايات المتحدة... خائبا يفتح كبيوتره، تظهر الشاشة الضوئية، وتعرض جولة حروان في متحف المدينة وعلى صفحات النت... تعرض تأملاته في المسرح والتشكيل.

في المشهد ما قبل الأخير، يقرر المؤلف أن يجري تغييرا في النص يصدم المتلقي، أن يدخل هو الغيبوبة بدل أبيه... يُسمع دوي انفجار، ومن بؤر الضوء وتدرجاته الزرقاء، تتشكل حدود غرفة العناية المشدّدة... صوت الطبيب يؤكد لأهل حروان حدوث نزيف في دماغه، يؤكد لهم أنه  سوف يتعافى، ويفيق من غيبوبته بكامل حواسه، عدا حاسة البصر...

وفي مشهد الختام ينهض الباطن المكلوم من حاضنة الجسد الغافي، يدخل بركة الألوان، يصتبغ بالأحمر القاني، كناية عن النزيف والألم... يعّصب رأسه، يفقأ عينيه، كأنه أوديب يكتشف هول خطيئته... يثور، يسكب الأصبغة على الأرض، والجدران وشاشة العرض، يرسم لوحة الغرائز والحواس البدائية... كأنه إنسان الكهوف يستيقظ، يصوغ إشارات التواصل الأولى، علامات الحنين إلى البراءة والصدق، ما قبل ظهور لغات تغتال المعنى والتاريخ، تكبّل سجية الكاتب بالقواعد والقيود... ما قبل نشوء حضارات تصنع الفوارق والاستبداد، تشعل فتيل النزاع داخل الذات وبين البشر...

 

بيروت: تهامة الجندي

المستقبل، ملحق نوافذ 9 حزيران 2013 

*وجدي معوّض: وُلد وجدي معوّض في لبنان 1968، وغادره في الثامنة إثر اندلاع الحرب الأهلية، درس المسرح في الجامعة الوطنية للفنون المسرحية في كندا، أدار مسرح "كاتر سو" في مونتريال من 2000 وحتى  2004، ثم انتقل الى ادارة "المسرح الفرنسي" للمركز الوطني للفنون في أوتاوا من 2007 وحتى 2012، أسّس فرقة "أ ب كاري س كاري" في كيبيك وفرقة "أو كاري دو ليبوتينوز" في فرنسا، وتوّلى منصب الفنان المشارك في مهرجان أفينيون 2009، حيث قدّم رباعيته "دم الوعود" المؤلّفة من أربع مسرحيات: "ساحل"، "حرائق"، "غابات" و"سماوات"، وتحولت "حرائق" عام 2010 إلى فيلم سينمائي، أخرجه الكندي دوني فيلنوف، وكان مرشحا لجائزة الأوسكار. إلى جانب الأعمال المسرحية الكثيرة التي قدّمها، والجوائز التي حصدها، خاض معوّض تجربة الإخراج السينمائي، وأصدر عددا من الروايات، آخرها بعنوان "أنيما"، وهو يُعتبر اليوم أحد أبرز كتّاب الفرانكفونية.


*"ربيع بيروت": عام 2009 أنطلق مهرجان "ربيع بيروت" إحياء لذكرى رحيل سمير القصير، وتيمنا بإحدى أشهر مقالاته، وفي الدورة الخامسة التي انعقدت بين 26و31 أيار 2013، افتتح المهرجان فعالياته بأمسية موسيقية غنائية لتانيا صالح، كما استضاف المخرج الكندي اللبناني الأصل وجدي معوّض، وقدّم ثلاث مسرحيات له، هي: "حرائق"،"الحارسة" و "وحيدون" إضافة إلى لقاء مفتوح معه ومع الشاعر والمسرحي اللبناني بول شاوول.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح