بلوفديف البلغارية.. عروس التلال

ربما لم يسمع الكثيرون بـ"بلوفديف"، مع أنها واحدة من أقدم المدن الأوروبية، وثاني أكبر مدينة بلغارية بعد العاصمة صوفيا، من حيث الحجم والأهمية الاقتصادية والثقافية. تقع المدينة في سهل "تراقيا العليا" على ضفتي نهر ماريتسا، وتمتد بين سبعة تلال، وبحسب الحفريات الأثرية تبلغ من العمر ثمانية آلاف عام، ولها ثمانية أسماء، ولم تأخذ اسمها الحالي حتى القرن الخامس عشر، ويسكنها اليوم حوالي 350 ألف نسمة، معظمهم من البلغار، إلى جانب نسبة قليلة من الغجر.

بناها التراقيون في الألف الرابعة قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم إيفمولبيا "Evmolpia"، وغدت واحدة من أكبر مدن منطقة تراقيا التاريخية. تعرّضت إلى عدة احتلالات، ومع كل احتلال كان يتغير لقبها، ويُضاف طراز جديد إلى أنماط عمارتها، فحين فتحها فيلبس الثاني المقدوني عام 342 ق.م، اسماها "فيلبّوبوليس" وشيد أسوارها وقلعتها الحصينة، وحين ضُمت إلى الإمبراطورية الرومانية سُميت "تريمونتسيوم"، وشهدت ازدهارًا اقتصاديا كبيراً، ترافق مع إنشاء بنية تحتية واسعة، من المباني والشوارع المعبّدة ومجاري صرف المياه، وحين دخلها العثمانيون سموها "فيليبه" واستبدلوا طراز العمارة البيزنطية السائدة بآخر، يحمل سمات شرقية محضة. ما جعل بلوفديف تزدان اليوم بمزيج متباين من الأوابد واللقى الأثرية وفنون العمارة، يعود إلى مختلف الحضارات التي تعاقبت على أرضها، من التراقية والإغريقية، إلى الرومانية فالسلافية والعثمانية والبلغارية.
إبان ما يُعرف بعصر "النهضة البلغارية" ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، شهدت بلوفديف حراكًا هاما على كافة المستويات، وغدت مركزًا لحركة التحرير الوطنية، وحين تحررت من العثمانيين عام 1878، افتُتحت فيها أول دار للطباعة باللغة البلغارية. في تلك الفترة عاش في المدينة الكثير من الأثرياء والمتعلمين، الذين كانوا يجوبون أوروبا، ثم يرجعون إليها محمّلين بنزعات ثقافية جديدة، بينما كان التجار المحلّيون، يظهرون اهتمامهم الملحوظ بالتصاميم العمرانية الفخمة، وبناء دور واسعة، أنيقة الهندسة، كثيرة الزخارف، على خلاف بيوت الآجرّ، التي كانت سائدة حينها بحجمها الصغير وتصميمها العملي، وسوف يختلط النمطيّن بتناسق جميل، فيما يُسمى اليوم بـ"المدينة القديمة" التي أُعيد ترميمها بالكامل، ولا تزال بيوتها العريقة عامرة بسكانها.
بدءا من المدرّج الروماني الأثري، الذي خضع للترميم، وأصبح المكان الأجمل لإقامة العروض المسرحية، تنبسط أمام الناظر "بلوفديف القديمة"، التي تتعانق فيها آثار الحضارات، والتي تحوّل عدد من بيوتها الفخمة إلى متاحف ومعارض فنية، وأمكنة لإقامة الحفلات والمهرجانات: مثل متحف "بوبوليس للفن القديم"، والمتحف الإثنوغرافي، وغاليري "سيلفيا ماريتسا للفن الحديث"، وبجواره مقهى "أخبار الفن" الذي افتُتح قبل خمس سنوات، وأصبح ملتقى للمثقفين، ثم بيت بالابانوش الذي تنظّم فيه عازفة الناي لينا بافلوفا مهرجانًا سنويًا للموسيقى، وما إن تخرج من حي الأثرياء، حتى تدخل حي "كابانا" أو المتاهة، وسُمي كذلك بسبب أزقته الملتوية، وهو مكان خاص بالمحّال التي تنتج، وتبيع الأشغال اليدوية التقليدية من الحلي والملابس وغيرها.  
بشطريها القديم والحديث، تحفل بلوفديف بالفنادق والمطاعم وأماكن الترفيه والمرافق الرياضية، وفيها يُقام العديد من المهرجانات السنوية للمسرح والسينما والرقص، لكن أهمية المدينة، لا تقتصر فقط على مناسباتها الثقافية، ولا على قيمتها التاريخية والأثرية، ومزاوجتها الناجحة ما بين فنون التراث والحداثة، كالقناة الرومانية التي صارت جزءًا من طريق "كوماتيفسكو سوشه". أهميتها تنبع أيضا من كونها مركز استقطاب صناعي وتجاري، كما أن أراضيها الخصبة، تجعلها من أهم المناطق الزراعية في بلغاريا، وفيها يجري تنظيم "سوق بلوفديف الدولي" الذي يغدو في كل عام ميدانًا لتبادل السلع والخبرات والمعلومات بين التجار من كل أرجاء العالم، وفي نهاية المدينة أُنشئت محطة للتجديف بأحجام أولمبية، تتيح ظروفًا جيدة جدًا لهواة التجديف والركض وركوب الدراجات الهوائية.
التلال التي ترتفع في أرجاء بلوفديف، أشبه بالحدائق والمنتزهات العامة، تتوزع فيها المقاعد الخشبية والمماشي. أعلاها "جنديم تبه" أو تل الشباب، وقد أُعلن منطقة محمية، لما فيه من نباتات متوطّنة وطبيعة محفوظة، وأنواع حيوانية كثيرة كالسنجاب وأبي الزريق والأرنب البري. أما على رأس تل "ساخات تبه" فينتصب برج الساعة، العائد إلى القرن السادس عشر، ويُعتبر هذا التل المنتزه المفضل للعشاق والفنانين الجوالين، سيما الشباب العازفين على القيثارات.

تهامة الجندي
العربي الجديد 16 أبريل 2015 الرابط

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق