ذاكرة ثقافية.. مهرجان أيام سينما الواقع والأسئلة المهاجرة

أفيش فيلم العودة إلى حمص
وأنا أقلّبُ صفحات الإنترنت، قرأتُ أن فيلم "العودة إلى حمص" عُرض بحضور منتجه عروة نيربية، في معهد "غوته" بصوفيا... دققّتُ النظر، ليس في الخبر الذي فاتني موعده، أي لبس. شعرت بالسخّط، لأني لم أواكب الحدث، الذي أنتمي إليه، وبدأ الحزن يحتل قلبي، وأنا أقطع المسافة نحو بلدي المسّتباح، أزيح مشاهد القتل والدمار، وأصل إلى أجمل المناسبات الثقافية في دمشق، مهرجان "أيام سينما الواقع".

مع بداية الربيع كان المهرجان يزور العاصمة، وعدد من المدن السورية، بمبادرة من عروة نيربية وديانا جيرودي، وبجهد العديد من عشاق السينما المتطوّعين، المخضرمين والجدد، وعلى مدى أربع دوّرات، هي عمره القصير، استطاع بفعالياته المنوّعة، وكانت تشمل عروض المسابقة والتظاهرات، الندوات وورش التدريب، استطاع المهرجان أن يفتح عيون الكثيرين على أهمية السينما التسجيلية، وأن يطلق فضاء ساحرا لأجمل نتاجاتها وألمع أسمائها، ترك أثره على انتعاش الفيلم الوثائقي في سوريا، ومن عروضه التي لا تُنسى، الفيلمين الرائعين: "مراسلو بورما" لـ أندرس أوسترغارد و"معركة تشيلي" لـ باتريسيو غوزمان.
كنتُ أتابع الفعاليات، وأشعر وكأني ألتقي بروحي، وحتى اليوم لا يغيب عن بالي حضور عمر أميرالاي الأنيق، ولا مداخلات أسامة محمد العميقة، ولا أزال أذكر ابتسامة "باسل شحادة"، الوديعة، وهو يفوز بمنحة لإنجاز فيلمه. كان واحدًا من مجموعة شابات وشبان رائعين، يعملون في إطار مهرجان "سينما الواقع"، وما إن بدأت أولى المظاهرات في دمشق، حتى انخرطوا بين المتظاهرين، ثم قرأت خبر اعتقالهم واحدًا بعد الآخر على صفحة الفيسبوك، وشاهدتُ على التلفاز مقتل باسل بقذائف النظام، وهو يصوّر المعارك في حمص.
أُوقف المهرجان، ودخل مؤسّسه المعّتقل بعد عام على الثورة. خرج من سجنه، وغادر سوريا، مثله مثل باقي الناجيين من فريق العمل، ولم يلبث أن أُعيد إحياء "أيام سينما الواقع". هذه المرة في إطار مهرجانات عالمية، وعواصم مختلفة، لا أستطيع الوصول إليها، لكني كلما قرأتُ خبرًا حوله، شعرت بالفرح، وأنا أستعيد محطات من ذاكرة دمشق الجميلة، كان لها دور في الربيع السوري.  
فيلم "العودة إلى حمص" ليس هو الوحيد الذي لم أره، أفلام كثيرة تناولت الثورة السورية، لم أتمكن من مشاهدتها، ليس أولها فيلم أسامة محمد "ماء الفضة"، وليس آخرها فيلم هالة العبد الله "محاصر مثلي". تابعت بعض الأفلام التي كان يتم تداولها بسرّية في سوريا كـ"ابن العم أونلاين" لمحمد علي الأتاسي، وقرأت عن بعضها الآخر مثل: "حاضنة الشمس" لعمار البيك، "دفاتر العشاق" لإياد الجرود، "سلّم إلى دمشق" لمحمد ملص، و"ذاكرة الدموع" لتامر العوّام، الذي قُتل وهو يغطي المجازر في حلب. قرأت عن جوائز حصدها المخرجون، لكن مشهد السينما السورية في عمومه، يبدو غائمًا ومثغورًا بالنسبة لي، ومثله تبدو بقية الفصول في الأفق الثقافي الجديد.
واقع اللجوء في الدول الأوروبية، أحدث الكثير من الفجوات والانقطاعات ما بين السوريين العاملين في الحقل الثقافي، ووضع الجميع، سيما الإعلاميين منهم، أمام إرباكات جديدة، تتعلق بإمكانات التواصل الحي، واستكمال نشاطهم، خارج مجالهم الطبيعي الحيوي، وفي سياق ما يمكن تسميته بـ"الثقافة السورية الحرّة"، وأقصد مجمل نتاج المثقفين المناصرين للثورة السورية، في مختلف أماكن تواجدهم، من المؤلفات الفكرية ونصوص السيرة والشهادات الحية، إلى الأفلام والصور الفوتوغرافية، فالجداريات والرسوم الساخرة وغيرها.
من المفترض أن الإعلامي المهجّر، المؤيد للثورة، هو جزء من هذا الحراك الثقافي بالمعنى الفكري والوجداني، وعلى عاتقه تقع مسؤولية رصده، وتقديمه إلى الرأي العام، من منظور نقدي موضوعي. لكن كيف يقوم بواجبه عن بعد، في إطار بلد غريب، وجمهور يتحدث لغة أخرى، لديه تقاليده ورموزه الثقافية العريقة؟ كيف يثّبت ذاته، ويكسب ثقة الآخرين، ويبني شبكة من علاقات العمل في وسط ثقافي لا يعرفه؟ والأهم من ذلك لمن يكتب، ومن سيستقبل موضوعاته، في ظل العجز المادي الذي يبتلع معظم المنابر الحرة في العالم العربي، ومنابر الثورة أينما وُجدت؟ وإذا كان بعض الإعلاميين قد حالفهم الحظ، وتجاوزوا الإشكال، فإن معظمهم يذوي ويغيب في منفاه البعيد.


تهامة الجندي
موقع "قاب قوسين" 2016 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح

صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين