أسبوعي مع مارلين

مضى نصف قرن على رحيل أسطورة السينما الأمريكية مارلين مونرو، ومازال العديد من المبدعين العالميين يتناولون شخصها وسيرتها الفنية في أعمالهم، ومازالت الإصدارات التي تحمل اسمها تثير اهتمام النقاد والجمهور على حد السواء، كما هو الحال مع الفيلم الإنكليزي "أسبوعي مع مارلين" الذي عُرض في صالة كندي دمر بدمشق، من إخراج سيمون كورتيس، تأليف أدريان هودجز، والفيلم يعود بالمشاهد إلى خمسينات القرن العشرين، ويقارب أحداثا حقيقية تم اقتباسها عن مذكرات صانع الأفلام الوثائقية كولين كلارك.
بدأ تصوير "أسبوعي مع مارلين" عام 2010، وتم افتتاح أول عروضه في مهرجان نيويورك السينمائي عام 2011، ثم جال في عدة مهرجانات عالمية، وحصد عددا من جوائزها، كما نال استحسان النقاد والجمهور، والشريط السينمائي يروي تفاصيل اللقاء الذي جمع كولين كلارك بمارلين مونرو خلال الأسبوع الذي قضته في بريطانيا لتصوير فيلمها "الأمير وفتاة الاستعراض" عام 1957، وقد يكون السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن قبل بدء العرض وبعد انتهائه: إلى أي مدى استطاع الفيلم أن ينجح في مقاربة مقطع من حياة المرأة الأكثر إثارة في العالم، والنجمة التي جعلت الشاشة الكبيرة تشع بحضورها الآسر؟.

وإذا كان السؤال عن إمكانات المقاربة المقنعة يُطرح في كل الأعمال التي تتناول السير الذاتية والمذكرات الشخصية، فإنه في حالة مارلين مونرو يبدو أكثر إلحاحا، لأن الدراما التي كتبَها قدرها استطاعت أن تتفوق على أي خيال مبدع، فمن طفلة دور الأيتام إلى أكثر نجّمات هوليود شهرة، ومن عشيقة أهم رئيس أمريكي إلى موت مباغت وغامض، تختلط فيه أوراق الانتحار بالقتل العمد.  
من حياة مونرو
حسب موقع الويكبيديا العربي وُلدت مارلين مونرو في يونيو 1926 باسم (نورما جين موتينصن)، وتغيرت كنيتها إلى (جين بيكر) نسبة إلى كنية الوالدة التي لم تكن متأكدة من هوية الأب، وفي سن التاسعة من عمر نورما تزوجت أمها شخص ثري، وأنجبت منه ولدان، بعد أن أودعتها دار الأيتام، حيث انتقلت بين عدة عائلات، وعانت الفقر والحرمان وسوء المعاملة ومرض التأتأة، وتعرضت لتحرشات جنسية، لكنها خلال مرافقتها لإحدى اللاتي قمّن بتربيتها تعرفت على مدينة السينما بهوليوود، وحلمت بان تكون إحدى نجماتها، دون أن تدري أن حلمها سيصبح حقيقة بأسرع مما تتصور.
تزوجت نورما في السادسة عشر من جار لها يكبرها بخمسة أعوام، وبذلك تحررت من وصاية دار الأيتام، لكن زواجها انتهى بالطلاق، بعدما تعلقت بهوليود إثر اكتشافها عن طريق مشروع لرونالد ريجان حين كان ممثلا، حصلت على أول اجر لها عام1945، ولفتت الأنظار إليها بعد أن وُضعت صورتها (كموديل) في شركة إعلان، وهي في التاسعة عشر، ومن يومها بدأت بالصعود على سلم الشهرة حتى بلغت ذروة لم يتجاوزها أحد من نظرائها، ويُقال انه تم تعديل أسنانها وفكها وأنفها، لكنها حين ظهرت بشعرها الأشقر تحوّلت إلى (صاعقة أنثوية)، وتركت أثرها البالغ على العديد من الممثلات والمغنيات من مختلف الجنسيات ممن أُعجبّن بها وتأثرّن بأسلوبها الأنثوي، مثل: مادونا، بريتني سبيرز، سكارليت جوهانسون، ميغان فوكس وليدي غاغا.
من أفلامها السينمائية: "كيف تتزوجين مليونيرا" (1953)، "الرجال يفضلون الشقراوات" (1953)، "نهر بلا عودة" (1954)، "هرشة السنة السابعة" (1955)، "موقف الأوتوبيس" (1956)، "الأمير وفتاة الاستعراض" (1957)، "البعض يفضلونها ساخنة" (1959)، "دعنا نمارس الحب" (1960)، "اللامنتمون" (1961).
في ظروف غامضة وملتبسة، حتى اليوم، تُوفيت (نورما جين بيكر) في الخامس من آب/ أغسطس عام 1962م، وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، فهناك من يقول إنها وُجدت جثة عارية في سريرها بمنزلها في لوس أنجلوس، وسُجّلت الحادثة على أنها انتحار بالحبوب المنومة والكحوليات، والبعض يدّعي أنه تم العثور عليها مرتطمة فوق سيارة دليلا على سقوطها من أحد المباني، والكثير من الشكوك تتهم الاستخبارات الأمريكية بقتلها للحصول على يومياتها ووثائق سرية كانت بحوزتها.
لم يكن وحده قدر مارلين مونرو هو المضّطرب والغريب الأطوار، بل كانت الفترة التاريخية التي عايشتها هي الأخرى تحفل بالصراعات والتقلبات الحادة، فقد جاءت الحياة في الزمن الفاصل بين حربين عالميتين، وعاصرت الحرب العالمية الثانية، وشهدت الصدام المحتدم بين الفكر الرأسمالي والاشتراكي، كما شهدت الحملة الأمريكية الشرسة لتطهير جميع المؤسسات من الشيوعيين، وتحمّلت بعضا من تبعاتها بسبب ميولها اليسارية. 
وربما تكون الظروف الاستثنائية الخاصة والعامة التي قادت مسيرة مارلين هي السبب وراء شعورها المتفاقم بعدم الرضى والاغتراب عن ذاتها، الذي نلحظه جليا في الرسالة التي كتبتها قبل رحيلها بعامين، وفيها تقول: "لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقية تماما، بل إنني زيف مفتعل ومصنوع بمهارة، إحساس قد يعانيه كل إنسان في هذا العالم من وقت لآخر، لكني أعيش هذا الإحساس طيلة الوقت، بل أظن أحيانا أنني لست إلا إنتاجاً سينمائياً فنياً أتقنوا صُنعه".
أسبوعي مع مارلين
لاشك أن بعث شخصية من لحم ودم استنادا إلى هذه الحيثيات المعقدة والمتعددة الأمداء لحضور طاغ عبر الحياة بلمح البصر، لا شك أنه أمر في غاية الصعوبة والمجازفة، فكيف ولج كاتب الفيلم ومخرجه عوالم مارلين الإشكالية، وهي في قمة نجوميتها كممثلة، وقمة إحباطها كامرأة تخلى عنها أزواجها الثلاثة، وفشلت في تحقيق أمومتها..؟
للخروج من مطب رسم ملامح واهية لا تتطابق مع صاحبة الشأن، قد تتعرض لتقريع المهتمين والنقاد، قام كل من المؤلف والمخرج باعتماد عيون كولين كلارك كزاوية نظر وحيدة لتوصيف مارلين وتقديمها، فالمتلقي لم يكن أمام شخص النجمة الكبيرة، بقدر ما كان أمام حركة مشاعر كلارك وهو يقترب منها ويتعرف عليها في لحظة من لحظات الانبهار والهيام الخالصين، وبذلك استطاع الفيلم أن يرسم لوحة انطباعية تنتمي إلى منطقة الأحاسيس والتصورات الذاتية رغم استنادها إلى شخصيات وأحداث واقعية.
وعلى الرغم من استناد الفيلم على المذكرات المدوّنة، فقد اعتمد حبكة تقليدية متسلسلة في الزمن وموزعة في مشاهد وأمكنة متوازية، بدأت من شخص صاحب المذكرات كولين كلارك (إدي ردماين) وتابعته في جولة قصيرة، أطلّت على ظروف نشأته وحياته قبيل ولوجه عالم السينما، وكان صوته يأتي من خارج الكادر، ويحكي كيف كان في الثالثة والعشرين من عمره فور تخرجه من الجامعة، يشعر بالإحباط والفشل، ولا يعرف متعة غير حضور الأفلام والنظر إلى نجومه المفضلين، حينها قرر فجأة الاستقلال عن أسرته، وتحقيق حلمه السينمائي، فغادر إلى لندن وتقدّم للعمل في شركة المنتج لورنس أوليفر (كينيث برانه).
في الشركة بعد أن تم رفضه عدة مرات، استطاع كلارك بدعم من فيفيان (جوليا أورمند) زوجة المنتج، استطاع أن يعمل كمساعد مخرج ثالث في الفيلم الذي يجري الاستعداد للبدء بتصويره، وسوف تلعب مارلين مونرو دور البطولة فيه، وكانت أولى مهماته البحث عن مكان مناسب لإقامة النجمة الشهيرة، وفي انتظار وصول البطلة تابعت العدسة كلارك وهو يحجز لها شقتين لتمويه الصحافة، ما أثار إعجاب مديره، كما تابعه وهو يُغرم بلوسي (ايما واسطن) المسؤولة عن خزانة الأزياء في شركة الإنتاج.
ينتقل المشهد إلى مطار هيثرو، حيث تحتشد الصحافة والشخصيات لاستقبال مارلين (ميشيل ويليمز) وهي تنزل من الطائرة برفقة زوجها آرثر ميلر (دوغري سكوت)، ووكيل أعمالها ميلتون غرين (دومنيك كوبر) ومدربتها في التمثيل بولا ستراسبورغ (زوي واناماكر)، استقبال احتفالي يتبعه مؤتمر صحفي يبرز جانب المشاكسة والمرح في شخصية النجمة.
في الأستوديو، وهو نفس المبنى الذي صوّرت فيه مارلين الحقيقة فيلمها قبل أكثر من نصف قرن، في الأستوديو تتأخر النجمة الكبيرة عن مواعيد التصوير، وتبدو كأنها تقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، تتردد كثيرا، تتلعثم، تنسى جمل من دورها، وتحتاج دائما لاستشارة وتشجيع مدربتها باولا، ما يثير حفيظة الفريق الفني، باستثناء النجمة الإنكليزية سبيل ثورنديك (جودي دينتش) التي تدافع عنها على الدوام، وكلارك المفتون بكل ما تقوم به، لكن مارلين لا تلبث أن تتجاوز إرباكاتها، وتؤدي دورا سوف يبهر الجميع، ويتركهم في حيرة يتساءلون عن سر هذه الموهبة الفطرية النادرة التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها غير قابلة للإظهار والصقل.
من بين كل النجوم اللامعين والشخصيات الهامة الذين أحاطوا بمارلين في بريطانيا، لم يثر إعجابها وارتياحها غير كولين، الشاب الأقل خبرة وشأنا من بين الجميع، فقد وثقت به، وأطّلعته على أسرارها، فضّلت رفقته على الآخرين، منحته قبلتها، وأذنت له بالاستلقاء على فراشها بعد رحيل زوجها المفاجئ عنها، واهتمام مونرو الغريب بالشاب النكرة أثار الحسد والأقاويل لدى الآخرين، وجعله ينسى حبيبته لوسي ويعرض الزواج عليها، ثم ما لبث أن أدرك مع انقضاء الأسبوع وانتهاء التصوير أن علاقته بمارلين لم تكن سوى نسمة حانية في صيف حار، سوف يظل يذكر عبورها الندي مدى حياته، ويؤلف حولها كتابين بعد أن غدا صانع أفلام وثائقية وكاتب سيناريو شهير.
في الفيلم لا نرى مارلين ولا نلمس أعماقها بمعزل عن كولين، فعيونه وأحاسيسه هي التي كانت تراها وتستشعرها، ثم تنقلها لنا عبر حساسيته ومرشحاته الخاصة، وهي بطبيعة الحال حساسية ومرشحات شاب قليل الخبرة، شديد الانبهار، يكاد لا يصدق ما يرى، وما يحدث له في حضرة امرأة ساحرة تنشر الفرح وتغوي وتثير عن بعد، لكن ما إن يقترب منها حتى يتعرف على كائن حزين مثقل بذكريات الفقد والحرمان التي تؤرقه وتزرع لديه وسواس من الوحدة.
في حواراته مع مارلين يتعرف كولين على ظروف طفولتها القاسية وافتقادها لمعنى الأسرة وحنان الأم، وفي سريرها يكتشف أن هذه المرأة التي تبدو في غاية الشهوانية، وتتعرى أمامه وكأنها تشرب كوب ماء، لا تطلب شيئا سوى عاطفة دافئة ووعد بعدم الهجر، يكتشف كم تحب أن تُرزق بطفل، لكن حملها لا يثبت، كيف تحرق عذاباتها بالمخدرات، ثم تنهض من رمادها وكأن شيئا لم يكن، يدرك كم هي رقيقة وهشة وقاسية على نفس القدر.
رافقت ذكريات كولين وانطباعاته عن نجمة الإغراء عدسة مرهفة، تفنّنت بالتقاط جماليات وألوان تظهر ما يمور في دواخل الشاب المفتون، وعزّزت أحاسيسه موسيقى عذبة تجيد التعبير عن خلجات الروح وهي تبحث عن حقها في التحليق وامتلاك أحلامها، وبرع فريق التمثيل في عكس تصورات الحالم الضمنية عن شخصيات تركت بصمتها في بداية مشواره الفني، وكلها روافع فنية أكدت جانب الإمتاع في الفيلم.
لكن الانطباعات والتصورات التي شكلت عماد العمل كانت سريعة وخارجية في الغالب، نابعة عن تجربة ذهنية في طور الاكتشاف، لا في طور التأمل والتفكير، وهي في العموم لم تصدر عن فرادة المرأة التي التقاها كولين، بقدر ما صدرت عن الاختلاف بين بيئتين: بيئته المحافظة، وبيئتها التي تطمح إلى تحطيم منظومة القيم التقليدية، وتمجيد الحريات الفردية، وفي مقدمتها حرية الجسد، ما جعل الحبكة تنتج نوعا من دراما خفيفة سرت فيها روح المفارقة الكوميدية، أكثر من النزعة التأملية العميقة في تضاعيف فرصة ذهبية وشخصيات استثنائية من النادر أن يحظى بها المرء في بداية حياته العابرة، وإن كنا لم نقرأ المذكرات، حتى نحدد مصدر النزعة التبسيطية، لكن يمكننا القول إن الفيلم كان بليغ المتعة خفيف الأثر.

تهامة الجندي
نُشر في "الكفاح العربي"

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح

صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين