تيرانس ماليك.. فيلم شجرة الحياة


في فيلمه "شجرة الحياة" استطاع المخرج الأمريكي، اللبناني الأصل تيرانس ماليك أن يصوغ ملحمة سينمائية عن إشكالية الوجود تتواشج في فضائها تحوّلات الأرض والإنسان منذ لحظة التخلّق الأولى وحتى الفناء، ملحمة تمور بالانفعالات والشعر والأسئلة، لكنها تحطم كل التصورات المسبقة حول بنية الحبكة والشخصيات والحوار، لغة خاصة تحمل بصمة مخرجها الذي بلّورها في أفلامه: "الأراضي البور"، "أيام الجنة" و"الخط الأحمر الرفيع"، وهي لغة تقوم على الإيحاء والرمز، لا على التفسير، ما يجعل من قراءة معانيها أمرا صعبا وملتبسا في أغلب الأحيان.

الفيلم حاز على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2011، وعلى أوسكار 2012، وحسب تقديرات الإعلام استغرق إنجازه قرابة ستــــة سنوات، أربعة منها تحضير، وسنتان تصوير وإنتاج، وتبلغ مدته ست ساعـــات، خُصصت منها ساعتان وثمانية عشرة دقيقة للعرض في المهرجانات، بينما بلغت الميزانية الإجمالية اثني وثلاثين مليون دولار، والأرباح أربعة وخمسين مليون دولار.
يدور الفيلم حول أسرة أمريكية متوسطة الحال، مكونة من الأب (براد بيت) والأم (جيسيكا شاستين) وثلاثة أولاد يموت أحدهم وهو في التاسعة عشر من عمره، وخبر الوفاة الذي يستهل الأحداث يفتح ذاكرة الأبوين والأخ (شون بين) على تداعيات تختلط في بوتقتها الأزمنة والأمكنة منذ أواسط القرن العشرين وحتى اليوم، كما تختلط المشاعر والتهويمات والأسئلة الوجودية في نسيج الوقائع، وفي الناتج الغريب لا يكترث المؤلف المخرج ماليك لسيرورة الشخصيات والأحداث، بل يولي اهتمامه لصيرورة الوجود ومعانيه المختلفة: الخلق والولادة، الطبيعة والأمومة، الإيمان والشك، الحب والزواج، الطفولة والموت وغيرها من الثنائيات التي تشكل دورة الحياة في ذواتنا وعلى الأرض.
يبدأ الفيلم بالسؤال: "أين كنتَ حين وضعتُ أساسات الأرض؟" ومنذ هذه اللحظة تصبح الأسئلة مفاتيح المشاهد، أسئلة فلسفية تصوغها الرؤية الشعرية، تنطلق أولا من نافذة تفتحها على الطبيعة وعلى الماضي أنثى جميلة في مقتبل العمر تقول: "أي الطرق نختار، طريق الفضيلة، أم الطبيعة؟" وتنساب اللقطات التي تنضح بالفرح على وقع الصوت الحاني لتوضيح الفرق بين الطريقين، ثم يصل خبر موت الابن إلى الأنثى الأم التي تجهش بالبكاء، وترسم أولى المفارقات الصادمة في السياق، ننتقل بعدها إلى مراسيم الدفن والعزاء، وإلى غرفة المتوفي حيث ندرك من أشيائه أنه كان رسامًا وعازف غيتار، وحيث الفقد العبثي يزعزع إيمان الأم بالخالق، ويثير الندم في أعماق الأب على معاملته القاسية لأبنائه.
تقفز الكاميرا نحو الحاضر، ناطحات سحاب زجاجية، مكتب فخم ووجه الأخ (شون بين) حزين ومتعب، يلقي أوامره على الموظفين بينما تتساءل نظراته القلقة عن سر الخراب الذي اجتاح النفوس، تتابع العدسة منولوجه وأسئلته في منزله وسريره، على الجسر وفي العراء: "في أية هيئة أتيت وتحت أي قناع"؟ وتقطع مشاهد الضيق صور الطفولة الرحبة، ثم يبدأ مشهد طويل في أحضان طبيعة هائجة، تصدعات وانهدامات واندفاعات، مياه تتدفق ثم تتجمد، خلايا في الهيولى، أسماك، ديناصورات فيما يشبه لحظة الانفجار الأولى وبداية تشكل الخلايا الحية وتطورها في كائنات مختلفة، وتعود الكاميرا ثانية لتلاحق خطا الأخ السائرة على الرمال، بينما يحمل صوته الهامس المزيد من التساؤلات، ويتساءل المشاهد في سره: كيف يفسر هذا التشابك السريالي بين أواليات الهدم والخلق، الكراهية والحب، الرغبة في الانعتاق والحنين إلى رحم الطفولة؟ وإذ لا يستطيع يغرق أكثر في أعماق المشهد.
وتتابع عدسة المخرج لعبتها في تشظية الزمن وإعادة إنتاجه في وحدات منفصلة، تستعرض ذاكرة العائلة: الزواج والإنجاب، التنشئة ودور الكنيسة في السياق، الأب الصارم والأم الحنون، الطفولة وبداية المراهقة والتمرد على الوصايا، الحب الأول، وخلال ذلك يغيب الحوار بين الشخصيات إلا ما ندر، وتتحدث الصورة بتكوينها العام، وبما تحمله من روامز وشحنات انفعالية، تبعثها حركة الممثلين أو الخلفية الموسيقية التي تقطعها همسات وأسئلة مقتضبة عن أسرار الأرض والسماء، حتى كأننا أمام حب عصي على التفسير، ومتعة تُنهكنا قبل أن تستسلم.

تهامة الجندي

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح

صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين