فيلم الفنان


يقوم الفيلم الفرنسي "الفنان" على الشخصيات والأحداث في إطار حبكة تقليدية محّكمة، متسلسلة في زمنها، ومتصاعدة في مسارها، لكن ما يميزه عن سواه هو محاكاة فريقه الفني لقواعد السينما الصامتة من حيث بناء الكادر وزوايا اللقطة، التصوير بالأبيض والأسود، أسلوب التمثيل، الموسيقى والملاحظات المكتوبة في مقام الحوار، ومع ذلك فقد استطاع الفريق أن يقدم تحفة سينمائية حصدت خمس جوائز أوسكار 2012 بينها أفضل فيلم وأفضل ممثل لجان دوجاردان، وهو أول ممثل فرنسي يفوز بالأوسكار.


يعود الفيلم إلى الفترة الممتدة ما بين الأعوام 1927و1931، وهي فترة مفصلية في تاريخ السينما العالمية، شهدت الانتقال من الفيلم الصامت إلى الفيلم الناطق، ويتناول المخرج ميشال هازانافيسيوس الموضوع بأدوات من صلب الحدث التاريخي عبر الممثل جورج فالتين (جان دوجاردان) أحد أشهر نجوم هوليود وأكثرهم شعبية، ممثل مبدع في كل الأدوار الصامتة التي أداها، ينسحب بساط النجومية من تحت قدميه بعد ظهور السينما الناطقة ورفضه العمل في إطارها، وتبدأ معاناته مع الفقر والإهمال وصراعه مع نفسه وماضيه، فيما يتابع الوجوه الجديدة الناطقة وهي تصعد سلم الشهرة وتحتل الشاشة الكبيرة.
يبدأ الفيلم بمشهد استهلالي يختصر فكرته العامة ومعاناة البطل، مشهد من فيلم داخل الفيلم يصور جورج وهو يتعرض للضغط والتعذيب كي يتكلم، لكنه يرفض ويهرب من سجنه، وينتهي المشهد وسط تصفيق حاد من الجمهور، وحشد كبير من الصحفيين والمعجبين، بينهم الفتاة الجميلة والطموحة بيبي ميلر (بيجو برنيس) التي سوف تدخل هوليود ككومبارس في أحد أفلام جورج الصامتة، ثم تتربع على عرش السينما الناطقة، وتشهد أفول نجم ممثلها الحبيب، تحاول مساعدته بكل السبل، وينكر حضورها وحبه لها كجزء من رفضه لدخول العالم الجديد.
على درجات الهبوط يتخلى عن جورج كل أصدقاؤه وتهجره زوجته، ولا يجد مؤنس لوحدته سوى كلبه وسائقه الوفي، وكرغبة منه بالتحدي والنجاة يغامر بأمواله وينتج فيلما صامتا، لكنه يُواجه بفشل ذريع، فلا أحد يحضر عرض الافتتاح سوى شريكته بالتمثيل والنجمة بيني ميلر مع صديقها، والفقر يفاقم المعاناة التي تنتهي به إلى حرق أشرطة أفلامه ومنزله ومحاولة انتحاره، لكنه يستيقظ على وجه بيني التي تستطيع في نهاية المطاف أن تقنعه بضرورة الكلام وقبول متغيرات الفن في المشهد الأخير.
وعلى الرغم من أن الفيلم مشغول بأدوات بدائية مقارنة بالثورة التكنولوجية التي تجتاح عالم السينما اليوم، غير أنه يحفل بكل مقومات الجذب والنجاح من ابتكار شخصيات آسرة بما في ذلك شخصية كلب الفنان، إلى الأداء الرائع الذي يوصل المعنى بلغة الجسد وتعبير العيون، فالموسيقى الساحرة المشحونة بالأحاسيس، مرورا بقصة الحب الرومانسية التي تجمع البطلين، وصولا إلى أسلوب المعالجة الشعري الذي لا يخلو من كوميديا الموقف، انتهاء بالمقولة العميقة التي تتجاوز حدود الفيلم إلى فضاء أعم بتناولها مسألة الصراع ما بين الحفاظ على التقاليد والانفتاح على الحداثة، وانحيازها لصالح التغيير، مقومات تذكرنا بأفلام شارلي شابلن الخالدة، وتدفعنا إلى التسليم بأن الفن الأصيل لا يحتاج أكثر من أرواح مبدعة.

تهامة الجندي
دمشق 2012 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عدنان الزراعي.. في انتظار وعد السراب

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟