المرأة الحديدية


عجوز تنوء بجسدها المتّعب، تدخل المتّجر، تشتري الحليب، وتغادر من دون أن تسترعي انتباه أحد. بهذه المفارقة يبدأ فيلم "المرأة الحديدية" بتناول حياة مارغريت تاتشر(1925-2013) المرأة الجميلة، القوية، الطموحة التي قادت حزب المحافظين في بريطانيا، وتقلّدت منصب رئاسة الوزراء لإحدى عشرة سنة، وصعد نجمها كواحدة من أهم ساسة القرن العشرين.

يندرج الفيلم في إطار أفلام السيرة، وعلى عكس المتوقع ينصب اهتمام مخرجته فيلديا لويد على الجوانب الإنسانية والشخصية من حياة تاتشر، ويبدأ من مناطق ضعفها: معاناتها مع الشيخوخة والعجز، وضعها النفسي المتردّي، وعلاقتها الواهية بمحيطها الأسري، فمنذ المشاهد الأولى نتابع مارغريت (ميريل ستريب)، وهي تتسامر مع زوجها دينيس تاتشر (جيم برودبنت)، وتحاول إخفائه عن عيون مراقبيها، وكانت في حقيقة الأمر تحدّث نفسها، لأن الرجل كان قد توفّي منذ زمن ليس بالقريب.
أيضا نتابع العلاقة المقّتصرة على الواجب، التي تربطها بمدبّرة منزلها ومديرة أعمالها، وكذلك بابنتها كارول، ثم العلاقة شبه المقطوعة بابنها مارك، الذي يعيش في جنوب أفريقا، ويوقظها من نومها ليلا، ليخبرها أنه لن يأتِ ليراها، بحيث ترسم أول المشاهد صورة امرأة وحيدة في الثمانينات من عمرها، تقاوم كآبتها باستعادة ذكرياتها.
وتستخدم المخرجة تقنية الترّجيع "الفلاش باك" لخلط أوراق الزمن، بحيث يتداخل الحاضر بالذاكرة البعيدة والقريبة، على شكل تداعيات وهلوسات وأحلام يقظة، تتحرك إما على وقع كتاب المذكرات الشخصية، أو الصور وأشرطة الفيديو العائلية والأغاني، حتى تجد عدسة التصوير طريقها للانتقال السلس بين الأحداث والأمكنة، واستدراج أكثر المحطات ألمًا وسعادة في تاريخ سيدة، ترفع تلويحة الوداع الأخيرة.  
تبدأ الذاكرة رحلتها من سنوات الشباب المبكّر، من تلك الصبية التي حازت على لقب ملكة الجمال، والتي كانت تهتم بالشأن العام، وترتبط بعلاقة قوية بأبيها الناشط السياسي، وعلاقة فاترة بأمها ربّة المنزل، ثم تنتقل الذاكرة إلى الحب، الذي جمع مارغريت بدنيس، ونجدها تقول له، وهو يطلبها للزواج: "إنها لن تكون امرأة تقليدية، تموت وهي تغسل فناجين الشاي"، ولن يخذلها الحبيب، بل سوف يكون سندًا لها في تحقيق كل طموحاتها، فبزواجها منه تنتقل من الطبقة المتوسطة إلى طبقة الأثرياء، وبدعمه تدخل حزب المحافظين، وتتقلد مناصب عدة وصولا إلى رئاسة مجلس الوزراء.
تتدفق ذكريات تاتشر وتداعياتها، وتقودنا إلى معاركها الضارية مع المعارضين لسياساتها، صداقاتها مع العديد من ساسة العالم، حادث التفجير الذي تعرّضتْ له، وكاد أن يودي بحياتها، انتصاراتها الساحقة على خصومها، وهزيمتها النكراء بعد أن شعرت بخيانة الرفاق، وأُجبرت على تقديم استقالتها، وغادرت 10 داوننغ ستريت عام 1990 والدموع في عينيها. وكل الذكريات تعود بتاتشر إلى شريك حياتها، تحاوره وتتشاجر معه، وحين يسألها طبيبها: إن كانت تعاني من الهلوسات؟ تجيبه بحزم: "أنها بخير"، مع أنها تدرك أنها ليست على ما يرام، وعليها أن تتعافى.
تقود تاتشر معركتها الأخيرة مع طيف زوجها الراحل، تصمّ أذنيها حين يحدثها، تجمع أشياؤه وتلقيها خارج المنزل، ترمي بأدويتها في القمامة، وتستطيع أن تنتصر على ذاتها وعلى عزلتها، ونشاهدها في مشهد الختام، وقد استعادتْ هدوءها، وقررتْ أن تخدم نفسها بنفسها، فصرفت خادمتها، وقامتْ بجلي الفنجان الذي شربتْ منه، ومع أداء ميريل ستريب الرائع ولمستها الساحرة، انتزع الفيلم أوسكار أفضل ممثلة لعام 2011.

تهامة الجندي

*"المرأة الحديدية" (:(The Iron Lady روائي بالألوان/ 105د، إخراج: فيلديا لويد، سيناريو: إبي مورغان، عن مذكرات تاتشر لجون كامبل. إنتاج داميان جونس/ 2011

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عدنان الزراعي.. في انتظار وعد السراب

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟