مالذي حدث في الغوطة الشرقية؟ (1)

بقلم: أوس المبارك

إلى روح الطفلة تسنيم مضر ياسين

مدخل

(1)

تسعى هذه المادة إلى ذكر الوقائع التي عايشتُها ميدانياً في معركة الغوطة الأخيرة، وتفسير أحداثها والمآل الذي انتهت إليه الغوطة، والأحداث التي سبقت هذا المآل ومهدت له، بعيداً عن نظريات المؤامرة والفهم الخاطئ وسوء الظن الذي سرى في معظم تناول هذا الحدث الصادم، الذي لا يضاهيه قبله إلا سقوط حلب.

(2)

لم يفعل الحصار بثوار الغوطة شيئاً أكثر من جعلهم متعلقين بها، بعد أن ظلّوا منقطعين عن التواصل الفيزيائي مع العالم خمس سنين. لا نقول إن الحصار كان أمراً حسناً أفاد الغوطة، لكنّ العزلة شبه الكاملة وَحَّدتْ ثوارها وعسكرييها معها، رغم تفرقهم واقتتالاتهم وتنازعاتهم الدائمة، فاستثنوا من حساباتهم أن يخرجوا منها.

لم يكن السقوط أصلاً خياراً مطروحاً في أي جلسة أو نقاش دار على مدى سنوات تحرير الغوطة ليتم العمل على تلافيه، حتى بعد كل ما وصلت إليه أوضاع الغوطة في عامها الأخير. لقد أصبحت الغوطة بالنسبة لهم العالم الذي لا يزول إلا بالقيامة، العالم الذي أسماه كثيرون: فسطاط المسلمين.

كانت لدى الجميع قناعة أن طاقة تحمّل نفوسهم أصبح قياسها ممكناً بمقياس الصلابة، ولا يمكن أن تتحمّل قوات الأسد وحلفاؤه ثمن كسرها، ذلك رغم اقتناعهم أن «العالم كله» ضدهم وغير آبه بهم، وأن روسيا تستطيع بسلاحها محو الغوطة عن الخارطة.

لم يكن التحمّل مقصوراً على نقص الغذاء أو القصف اليومي أو المعارك الدورية أو صعوبة المعيشة في الحصار فحسب، بل شمل الاقتتال بين الفصائل والتنازعات الدائمة، وتجيير القضاء والشرطة، والانتهاكات المستمرة بحق النشطاء المدنيين وبحق حرية التعبير عن الرأي، وعدم الفهم لعمل المؤسسات العامة التي لا يحكمها قانون واضح أيضاً. وغشا التعوّدُ على التحمل بعدها.

«بالحصار، بيتحمل البني آدم أكتر من الحمار». هذا ما قيل مرة. وكذلك كان انطباع معظم المتابعين الخارجيين من مؤيدي الثورة: من يتحمل هذا الحصار الطويل لا يسهل كسره. كان واضحاً بالنسبة لنا «تقديسنا» و«أسطرتنا» في أذهان كثيرين.

(3)

كانت قوات الأسد قد سيطرت على أنفاق برزة والقابون بعد سقوطهما في أيار 2017، فقطعت بذلك إمداد المحروقات والدواء والغذاء وبقية الاحتياجات. وقامت في شهر آب بإغلاق الطريق التجاري من مخيم الوافدين، الذي كان يمرر الغذاء فقط وبأسعار مضاعفة عدة مرات عن أسعار دمشق المحاذية للغوطة. فعانت الغوطة خلال ستة أشهر من حصار خانق لم تعرف له مثيلاً من قبل، حتى وصلت الأسعار إلى أرقام قياسية جعلت الغوطة أغلى منطقة في أسعار الحاجات الأساسية في العالم. مات كثيرٌ من الأطفال نتيجة سوء التغذية، وجاع معظم سكانها كما لم يسبق أن حدث من قبل.

وكان كثيرٌ من الناس يحمّلون الفصائل سبب حصارهم وجوعهم، متهمينها بتخزين المواد الغذائية وحماية التجار الذين يبيعون بأسعار باهظة، ذلك رغم أن الغوطة كانت تضم حينها 375.000 نسمة، وبحساب بسيط يمكن تقدير أن ما يحتاجه السكان خلال شهر يبلغ آلاف الأطنان من المواد الغذائية، وهو ما لا يمكن أن تستوعبه أي مستودعات لأي فصيل، ورغم أنهم كانوا يرون عناصر الفصائل جوعى مثلهم أيضاً. لكن هذا التحامل على الفصائل نما بعد الاقتتالات المتكررة بينهم للسيطرة على الغوطة، وبعد تضييقهم العيش على المدنيين بقطع الطرقات «وتوعيرها» بين مناطق نفوذهم، وبتدخلهم الفجّ في الشؤون المدنية، حتى غدا الجميع كارهين لهم.

وفي 15 تشرين الثاني 2017، وبعد أن بلغ الحصار والجوع حداً غير مسبوق، أعلنت حركة أحرار الشام عن بدء معركة على إدارة المركبات في حرستا، واستطاعت محاصرتها، وهدفت من ذلك إلى قطع الطريق الدولي بين دمشق وحمص، علاوة على تحطيم أقوى حصون قوات الأسد حول الغوطة. أدركت قوات الأسد أنها أخطأت بإطباق الحصار تماماً، ففتحت الطريق التجاري أثناء حصار إدارة المركبات، لكن بأسعار تصل إلى عشر أضعاف أسعار دمشق، ويضيف عليها جيش الإسلام المتحكم بالمعبر من جهة الغوطة مبلغاً يسيراً، بعد أن نشر في أوساط الناشطين والوجهاء أن دعمه قد توقف منذ فترة ليبرر إضافة مبلغ على الثمن الباهظ أصلاً. وفترتْ همة المعارك بعد أن أعلنت قوات الأسد استعدادها للتفاوض، قبل أن تشن هجمة بمساعدة الطيران الروسي وتستطيع فك الحصار عن إدارة المركبات، وتستمر بترك الطريق التجاري مفتوحاً حتى كانون الثاني 2018، أي قبل شهر من بدء المعركة الأخيرة.

(4)

بدأت الحملة ليل الأحد 18 شباط 2018. كان قد سبقها خلال الأسابيع السابقة قصفٌ شديدٌ على مراكز الخوذ البيضاء والمستشفيات والمناطق السكنية، وقُدّرت أعداد الضحايا بين كانون الأول 2017 وحتى تاريخ بدء الحملة بحوالي 900 شخص، ثلثهم من الأطفال والنساء.

كنتُ في الشارع خارجاً من مستوصف سقبا حين هطلت أول صواريخ من الراجمات على منطقتنا نهار الإثنين، كان أحدها عند باب المستوصف بعد ابتعادي عنه بنحو دقيقة. 36 صاروخاً نزلت متتابعة في المدينة والمدن المجاورة. كانت لأصواتها فاعلية في النفوس أكثر من قوتها التدميرية. ركضتُ إلى بيت صديقي القريب، واتصلتُ عبر الهاتف الأرضي إلى منزلي لأطمئن على تهامة وسموّ، زوجتي وطفلتي. كان قد تم تشغيل مقسم الهاتف في المدينة على الطاقة الشمسية والمولدات منذ فترة وجيزة، وقد تبدّى كم كان ضرورياً في ظروف الحملة وانقطاع الإنترنت كثيراً بسبب قصف أبراج استقباله.

لم نكن ندرك بعد أنها ستكون حملة غير مسبوقة. عدتُ إلى المنزل منتظراً أن تهدأ موجة القصف التي كانت معتادة كل فترة. لكننا لم نعد نخرج منه إلا إلى الجيران في الطوابق السفلى أو الأقبية. وبدأت صواريخ الطائرات بإنزال المباني وأقبيتها على رؤوس ساكنيها.

نتابع على المراصد قدوم الطيران نحونا، استقبلنا حوالي 2000 تحذير على المراصد في عدة أيام. لا يمكن أن تمرّ أكثر من خمس دقائق دون سماع أحد أصوات السوخوي أو الطيران الرشاش أو طيران الاستطلاع أو المروحيات، ليلاً ونهاراً. وغالباً ما تمتزج أصواتها سوية. لم يستوعب أحد ما الذي يحدث بادئ الأمر، كانت الصدمة والذهول والخوف تغمر وجوه الناس الذين اعتادوا على المجازر والقصف طويلاً، لكن ليس هكذا!

استمرّ القصف دون تحقيق تقدم في القتال البري عشرة أيام. كان الهجوم مركزاً على امتداد مناطق سيطرة جيش الإسلام في الزريقية وحوش الضواهرة والريحان، إلى النشابية وحزرما، أي على طول خط الجبهة الشرقية للغوطة. وقد سبقتها محاولات لاقتحام دوما، معقل جيش الإسلام، من ناحية الطريق الدولي دمشق – حمص، لكنها باءت بفشل ذريع وخسائر كبيرة فتمّ إيقاف المحاولة، وكذلك جرت معارك في حرستا حول إدارة المركبات. في تلك الفترة تمّ تدمير نحو نصف الوحدات السكنية في الغوطة. وبدأ أهالي الغوطة خلالها بحفر أنفاق من الأقبية وصولاً إلى النقاط الطبية والإدارات المدنية، من مجالس محلية ودفاع مدني ومراكز إغاثة، وكذلك إلى النقاط الطبية بين المدن المتجاورة. عملٌ انتهى خلال أسبوعين، وزادت سرعته بعد بدء التقدم البري. عملٌ كان يحتاج أشهراً طويلة لإنهائه دون وقوع هذه المعركة.

بدأ التقدم البري بعد قرار مجلس الأمن 2401 بيومين أو ثلاثة، وبعد إعلان النظام الروسي لهدنة مختلفة عمّا تم إقراره في القرار. أعطى عدم تنفيذ قرار مجلس الأمن منذ اللحظة الأولى، وإعلان النظام الروسي لتلك الهدنة المخالفة للقرار، التي لم يلتزم بها حتّى، انطباعاً عاماً لدى جميع المدنيين والمقاتلين في الغوطة، الذين كانوا يعوّلون على القرار لوقف القصف، أن الحقيقة الوحيدة هي استمرار قتلهم وتدمير منازلهم وترويعهم، وأن كل ما يشاهدونه على الإعلام كذبٌ لتمرير تلك الحقيقة. كان التأثير النفسي لذلك كبيراً على الجميع، المعنويات قبله غير التي بعده.

استطاعت قوات الأسد قطع خطوط الدفاع في الجبهة الشرقية من ناحية حوش الضواهرة يوم 27 أو 28 شباط. قطعت الخندق المائي أخيراً بعد عدة محاولات، وبعدها بيومين أو ثلاثة استطاعت السيطرة على النشابية وحزرما وتل فرزات الاستراتيجي. ويصعب تحديد تواريخ دقيقة لعدم وجود إعلاميين مستقلين على تلك الجبهات حينها، وعدم شفافية إعلام الفصائل، وعدم الوثوق بأخبار قوات الأسد التي اعتادت الكذب.

كان مهندسُ الجبهة الشرقية وراسمُ خطوط دفاعها وخططها العسكرية، المهندس أبو عبد الله 200 (رضا عبد القادر الحريري). تعرفتُ عليه قبل الثورة حين كان طالباً في هندسة الميكانيك في جامعة حلب، وتربطنا قرابة بعيدة كوننا من العائلة نفسها، والقرية نفسها التي لم يعش كلانا فيها (وهي قرية علما، لا بصر الحرير كما نَشَرَ جيش الإسلام). كان يعيش في قرية القاسمية في منطقة المرج (المنطقة الشرقية من الغوطة). شخصٌ متزنٌ وهادئٌ وحادّ الذكاء، أثبتَ جدارة عسكرية وشجاعة منذ بداية العمل المسلح الذي التحق به مبكراً. قادَ لواء الإمام الحسين الذي انضمّ إلى ألوية الحبيب المصطفى الصوفية، قبل أن يلتحق بجيش الإسلام في آذار 2015، وكان يكنّ له كرهاً شديداً حدّ التخوين. حين سألتُهُ عن سبب انضمامه أشار إلى توقف الدعم عن الألوية، وأنه اختار جيش الإسلام لتنظيمه العسكري العالي، وتم الاتفاق بينه وبينهم على جميع التفاصيل.

كان يدين له معظم شباب المنطقة الشرقية بالولاء، ويعطونه ثقتهم لعدم قدرة قوات الأسد على التقدم في أي جبهة أدارها طيلة فترة تحرير الغوطة، هو الذي يحفظ المنطقة الشرقية جيداً. وكذلك نال ثقة جيش الإسلام فأصبح نائب قائد أركانه. تحوّلَ أبو عبد الله إلى مؤيد شديد لجيش الإسلام بعد أن وضع بين يديه على الجبهات إمكانات لم تتوفر له من قبل، وشارك في معظم اقتتالاته في الغوطة، بِدءاً من عملية القضاء على جيش الأمة إلى الهجوم على الاتحاد الإسلامي وفيلق الرحمن. أَسَرتْه جبهة النصرة عام 2016، وتدخل محبوه الكُثُر في مختلف الفصائل، برغم عداوتهم مع جيش الإسلام، للإفراج عنه، لما يحفظونه له من شجاعة وانتصارات في الدفاع عن الغوطة، ولأنه كان على خطوط الجبهة الأولى دوماً، وتعرّضَ لسبع إصابات بعضها كان خطيراً.

في آب 2017 تم اغتيال أبو عبد الله 200، وتم تبادل الاتهامات حول اغتياله الذي وقع في مناطق سيطرة جيش الإسلام، بين كلام غير رسمي يتهم جيش الإسلام بالتخلص منه، وبين كلام قيادات جيش الإسلام الذين اتهموا تحالف فيلق الرحمن – جبهة النصرة باغتياله.

كان لفقدانه أثرٌ على الجبهة الشرقية، حتى قبل بدء المعركة، فاستطاعت قوات الأسد التقدم من ناحية الزريقية وحوش الضواهرة بعد اغتياله. ولا أودّ القول إنه لو كان حياً لما استطاعت قوات الأسد اقتحام الغوطة، لكن ربما لم يكن ليحدث هذا الانهيار السريع، الذي زاد من تراجع المعنويات، وجعل كثيراً من المقاتلين يتركون الجبهات إلى الفوضى والتخبط.

في المنطقة الشرقية تنتشر الأراضي الزراعية، وحال تمكّنِ قوات الأسد من السيطرة على تل فرزات، أصبحت مساحات واسعة منها مكشوفة أمامها، فتقدمت خلال يوم أو يومين إلى فوج الشيفونية، وهو ثكنة عسكرية كبيرة كان يشيع بين أهالي الغوطة قبل أشهر من سقوطها أن القوات الأمريكية تريدها قاعدة لها. هكذا سيطرت قوات الأسد على كامل منطقة المرج، وتوقفت عن التقدم في مناطق سيطرة جيش الإسلام متجهةً إلى مناطق سيطرة فيلق الرحمن.

بعد انتهاء المعركة، اتهم مناوئون لجيش الإسلام، وأهمهم وائل علوان الناطق باسم فيلق الرحمن، الجيشَ بالانسحاب عمداً من منطقة المرج بهدف كشف ظهر مناطق سيطرة فيلق الرحمن التي لا يوجد بينها وبين مناطق سيطرة جيش الإسلام خطوط دفاعية.

قابلتُ مؤخراً في ريف حلب الشمالي صديقاً لي، كان معنا في كتيبة يوسف العظمة وكان أصغر شبابها، وهو من أبناء الأقليات، وانضمَّ إلى جيش الإسلام منذ سنين ولم أقابله منذ حينها. لم يكن تغيرٌ فكريٌ قد دفعه إلى جيش الإسلام، بل حقده على عصابة الأسد هو ما جعله ينضم إلى الجهة الأكثر تنظيماً وقوة، والتي تضمن له الحد الأدنى من المعيشة. وقد أصبح لاحقاً أكثر شدة وقوة، وغدا قائد سرية في جيش الإسلام. سألتُهُ أين كان في المعركة، فأجابني بأنه كان في النشابية وتل فرزات قبل أن ينسحبوا ويتم نقل سريته إلى كرم الرصاص في مدينة دوما... دفعة واحدة!

سألتُهُ عمّا حدث في النشابية وتل فرزات، وعن سبب انسحابهم منها، فقال لي إنهم كان يبعدون عن قوات الأسد مسافة 200 متر، وإنهم في مثل هذه المسافة القريبة لم يكونوا يتعرضون لقصف الطيران أو المدفعية من قبل، بل كان أكثر ما يحدث هو مهاجمتهم بالدبابات التي يعرفون كيف يتعاملون معها، وكان لديهم مضادات دروع لمواجهتها. لكنّ الطيران هذه المرة فاجأهم. أتت طائرات السوخوي 35 و57 الروسية التي كانوا يشهدون قصفها للمرة الأولى واستهدفت كافة تحصيناتهم بدقة، بما في ذلك حتى «الجُوَر القِمعية» التي يحفرها المقاتل ليختبئ فيها مع سلاحه فقط. تم تدمير خطوطهم الدفاعية بأكملها، فاضطروا للانسحاب إلى الأبنية التي أسقطها الطيران بعد ذلك، لتتقدم إليها الدبابات والمدرعات وعربات الشيلكا، ويضطروا إلى الانسحاب نهائياً من المنطقة بعد أن لم يبقَ خلفهم سوى الأراضي الزراعية غير المحصنة.

أصدّقُ ما قاله، وأستبعدُ أن يكون الأمر «خيانة» من جيش الإسلام لكشف مناطق سيطرة الفيلق وتسهيل سيطرة قوات الأسد عليها، بعد أن استعصت جبهات الفيلق عليها من ناحية دمشق في جوبر وعين ترما وعربين وكفربطنا وزملكا منذ تحرير الغوطة. أستبعدُه ولا أنفيه تماماً، فقد فاجأنا جيش الإسلام دوماً بارتكابه أفعالاً لا تقارب المنطق بسبب ضيق أفقه وتنافسه غير الشريف. إذا كان قد ظنَّ أنه سيبقى مسيطراً على دوما بعد أن يسقط القطاع الأوسط، وإذا كانت هناك صفقة من هذا القبيل فعلاً، ثم خانها الروس والأسد لاحقاً، فإن ذلك مما يدل على خيانته للثورة وغبائه منقطعَي النظير، اللذين لا يحتاجان على أي حال إلى أن يكون ذلك صحيحاً للدلالة عليهما.

 

نقلًا عن موقع "الجمهورية" 25 حزيران 2018

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق