مالذي حدث في الغوطة الشرقية؟ (3)

بقلم: أوس المبارك

(7)

في زملكا، حيث قيادة فيلق الرحمن ومعظم مستودعات سلاحه، كان التخبط جلياً أكثر: عناصر يأتون ويشتمون القيادات وجهاً لوجه، والأخيرون يشتمون القيادات الأعلى منهم. وتأخذ بعضهم الحمية فيخرجون إلى الجبهة، ليعودوا بعد ساعات ويشتموا مجدداً. أحدهم قال إنه لو أن قوات الأسد تعرف أن لا شيء أمامها سوى بضع شباب ببواريد، لأصبحت خلال ساعتين في زملكا. شاب آخر بدأ يتواصل ويجمع معارفه من المقاتلين ليتعاهدوا على عدم خيانة الثورة مهما حصل، وأن يقوموا فوراً بقتل أي أحد يدعو إلى «المصالحة» لتجنب ما حدث في كفربطنا وحمورية. فيما كانت تأتي قيادات لتهدّئ الشباب وتعدهم أن العمل قريب، ويعني ذلك معركة باتجاه دمشق.

أحد قيادات الصف الأول في الفيلق جاء إلى المجلس المحلي وقال أمام الجمع، بعد أن أكّدَ على استحالة قدرة قوات الأسد على إكمال هذه المعركة: استراتيجيتنا الآن هي استيعاب الخرق، ثم تثبيت النقاط، والانتقال إلى الهجوم.

ضحكنا كثيراً أنا وأحد الأصدقاء بعد انتهاء اللقاء ونحن نكرر تلك العبارة، رغم انهيارنا النفسي، وقلّدنا حركات يديه حين وسّعهما وهو يقول كلمة «خرق». كانت حركة اليدين واسعة أكثر من «خرق» بعد أن سقط أكثر من نصف الغوطة، وغدا مستحيلاً تثبيتُ النقاط ومترسةُ هذه المساحة بين اليدين اللتين تتحركان كالسكين وهما تثبتان النقاط، ثم تنتقلان إلى الهجوم بعكس الاتجاه، أي إلى دمشق.

مررنا في تلك الفترة بوضع مأساوي أصعب من أن يوصف، الطعام قليل جداً، الإنترنت بطيء ومنقطعٌ معظم الوقت، الكهرباء قليلة، حياتنا بالكامل تحت الأرض، والانتقال بين المجلس والمشفى والأقبية كله تحت الأرض، والقصف متركز على المجلس المحلي والمشفى وقيادة الأركان. لا محالّ مفتوحة، ولا أي شيء يباع غير الدخان بسعر باهظ، وبالسيجارة لا بالعلبة. قوات الأسد تتقدم في طريقها إلى زملكا بعد أن سيطرت على حزّة وكفربطنا. أقسمَ لي أحد المقاتلين أنه كان مع ثلاثة شباب آخرين وبواريدهم حين صدوا تقدم دبابات الأسد ومُشاته إلى زملكا عند مفرق عربين. أخبار كثيرة وشائعاتٌ متناقضة، كالتي قيل فيها إن عبد الناصر شمير قائد الفيلق خرج من الغوطة عبر نفق، بعد أن ظل لأكثر من أسبوع مجهول المكان، وأنه ذهب إلى أخيه الضابط في الحرس الجمهوري؛ وأخرى حول قرار تسليم جميع شباب الغوطة ليذهبوا ويقاتلوا مع الأسد في إدلب، إضافة إلى علمنا ببدء تسليم حرستا وتهجير المقاتلين والناشطين إلى الشمال بعد أن عانوا أياماً عصيبة في بقعة صغيرة محاصرة. علاوة على أن قوات الأسد كانت تتقدم ليلاً، فنستفيق على أنباء متضاربة حول المكان الذي وصلت إليه.

في الساعة الثانية ليلة 23 آذار، كنتُ نائماً في المجلس عندما أيقظني شخصٌ وهو يقول: «وين سلاحك؟؟». أجبته قبل أن أفتح عينيّ: «أنا مدني ما معي سلاح»، فقال لي: «قوم مندبرلك بارودة». حينها فتحتُ عيني ونظرتُ إليه، لم يكن من جنود الأسد كما ظننتُ عند سؤاله الأول، وكان صوت الرصاص وقصف الدبابات قريباً كما لم يكن من قبل. فسألته: «وين صاروا؟». فسألني: «ما بدك تدافع عن أرضك وعرضك؟»، فسألته: «يا أخي وين صاروا؟». فقال بعصبية: «قوم هلأ وتعا معنا. شب بعمرك لازم يكون عالجبهة مو نايم»، فقلت: «يا أخي أنا طبيب ورايح هلأ عالطبية. بس قلي وين صاروا؟»، فقال: «عند المزرعة». لم أعرف أين هي المزرعة، لكنها حكماً في زملكا التي لم يهمّني أن أعرف أسماء مناطقها خلال نزوحي، عرفتُ ذلك لأنه لم يقم بتسمية إحدى البلدات أو المدن. بعدها سألني عن عدة أشخاص يتواجدون عادة في المجلس نهاراً، فقلت له: «بيكونوا نايمين بأقبيتهن»، فشتمهم ومضى معي من النفق نفسه ليبحث في الأقبية عن متطوعين للقتال.

حين وصلتُ إلى المشفى كانت القيامة أمامي، مئات من الناس يحملون أطفالهم وأغراضهم، جرحى وشهداء بالعشرات، وأصوات الاشتباكات والقصف تصمّ الآذان. اقتربت من أحدهم وسألته: «وين المزرعة؟»، فقال لي ببداهة: «هون». ولا يمكن أن أصف كم كنتُ مسروراً بتلك المعلومة!

نزح معظم الناس من أقبيتهم التي وصلت إليها قوات الأسد إلى أقرب قبو إليهم، المشفى الميداني. بدأ شبابٌ يصرخون بالناس للتطوع في القتال. خرج معهم عشرون شاباً تقريباً. عاد معظمهم جريحاً أو شهيداً. جاءت مؤازرات جديدة، واستمرّ القتال حتى مطلع الصباح. بدأَت الأصوات تبتعد رويداً رويداً. رأيتُ ذات الشاب الذي أفاقني من نومي فقال لي: «بعدناهن لبعد مفرق عربين».

عدتُ إلى قبو المجلس، وكان الجميع قد تخلى عن اتزانه وبدأ يشتم. وبعد ساعات جاء أحد قادة الفيلق ممتعض الوجه وجلس وهو يدخن دون أن يسلّم، فسأله أحدهم: «شو؟»، فقال: «شو شو؟... انهزمنا. طول الوقت ونحنا عم نقلكن في عمل. بس ما حدا تجاوب معنا. ولا حدا رفع همّة الشباب. كل الوقت عم تحاكونا بشو إمكانياتنا وما حدا بدو يقاتل. كلكن كنتو قاعدين تحبطوا أبو النصر بدل ما تعاونوه. ولا حدا منكن إجا وقلّه بدنا نقاتل. تقعدوا تسألوا عن التفاصيل لتقولوا ما في أمل وخلينا ندور على خروج آمن...». قاطعه أحدهم: «يعني في خروج آمن...؟» فقال: «أي». تركه معظم الموجودين واتجهوا خارج المجلس، وأنا ذهبتُ إلى الأريكة لأنام.

(8)

في المساء أفقتُ على أصوات جمع في الصالة. ذهبتُ إليهم حتى لا أُضيّعَ مجلساً كهذا في لحظة كهذه. كان الإحباط والحزن على الوجوه، رغم عدم تصديقي لكثير منها. كان هناك شيخٌ يسأل عما سيقولونه لتلاميذهم وللناس تبريراً للهزيمة، بعد ما كانوا يقولونه طوال سنين عن الغوطة من أنها فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى. قاطعتُه وقلتُ ببداهة: «بسيطة. الحديث ضعيف». ضحكَ الجمع من حيث لم أتوقع، فتابعت: «وفي ناس معتبرينه موضوع». كانت الحوارات مشتتة بين تفاصيل الاتفاق وبين ما وصلنا إليه: جلدٌ للذات. تبرئةٌ للنفس بتوحد كل العالم ضد الغوطة. عفرين التي يقال إننا سنذهب عليها جميعاً. أربعينيٌ يكلّم صديقه في إدلب، ويسأله أمام الشيخ إن كان عندهم ويسكي شيفاز. مسنٌّ لم يستوعب ما يحدث، ويكرر السؤال عما يجب أن نفعله الآن لنبقى في الغوطة.

أتى بعدها مقاتلون من جوبر. لم تستطع قوات الأسد التقدم على هؤلاء الأبطال قيد أنملة طوال خمس سنين. أصبحت جوبر خراباً ودُمِّرَت كل أبنيتها، ولم يتراجعوا. كانت صدمة لهم أن يُقال: ستخرجون إلى إدلب. لم يستوعبوا بعد حقيقة أن الغوطة انتهت خلف أظهرهم، رغم نجاحهم طيلة قتالهم في تركيع قوات الأسد. كانوا يتحدثون عن قدرتهم الآن على دخول دمشق. شعرتُ بالمرارة عليهم أكثر من أي أحد. لا يستحقون هذه النهاية، ولا شكّ عندي أنها ليست نهايتهم.

(9)

في دوما كان جيش الإسلام يُشيعُ بين الناس أن أمرنا لن يكون مثل القطاع الأوسط، وأن هناك مفاوضات على البقاء وإيجاد حلّ مع النظام الروسي ليكونوا قوة حكم ذاتي مع إعادة مؤسسات الدولة إلى العمل. وفي اجتماعاتهم مع اللجنة المدنية (التي سنذكرها لاحقاً) ضربوا مثال غزة.

لن أستفيض في شرح تفاصيل ما حدث في دوما خلال المعركة، وأُقدّرُ أن هناك كُتّاباً كانوا في دوما حينها يستطيعون سرد ما جرى بدقة ودراية أكثر مني. لكن سآتي على بعض التفاصيل التي أظنها تستحق الذكر.

في بداية المعركة تشكلت (الكتلة المدنية) من أعضاء في مجلس محافظة ريف دمشق التابع للحكومة المؤقتة، والذي يوجد مكتبٌ له في الغوطة، ومن قيادات مدنية وناشطين، لتعبّر عن الموقف السياسي لهم وتبتعد عن نزاعات الفصائل واختلافاتها في الرؤى، ولتكون صوت الخيار المدني في الغوطة. وكان معظم أعضائها متواجدين في دوما. لكن الفشل في إيجاد حلّ موحد للغوطة جعلها تضمحل، ويتحول أهم أعضائها تالياً إلى (اللجنة المدنية) للتفاوض مع النظام الروسي عن مدينة دوما.

رفض جنرالات الجيش الروسي أن تتدخل اللجنة المدنية في مصير السيطرة على دوما، وأرادوا أن تقتصر «نقاشاتهم» مع اللجنة على النواحي الإنسانية وما سيُتفَق عليه بخصوص المدنيين بعد خروج جيش الإسلام من المدينة، مُصرّين على أنهم لن يناقشوا الأمور العسكرية إلّا مع العسكر.

كان ذلك تحويلاً للتفاوض من الروس إلى جيش الإسلام الرافض للخروج. جرت بعدها نقاشات كثيرة بين قيادة جيش الإسلام وبين اللجنة المدنية، وجرى فيها سرد الثورة من بدايتها و«جرد حسابها». بعد أن عرضت اللجنة المدنية أسبابها التي تراها وجيهة لأخذ خيار الخروج، قال كعكة: «يا إخوان علينا أن ننتبه لأمر هام. حين أمرض أذهب إلى الطبيب ليعالجني ولا أناقشه في علمه. وحين أريد عملاً هندسياً أذهب إلى المهندس. وفي هذه القضية التي هي قضية شرعية يوجد لها مختصّ، وهي من اختصاصي، وأقول لكم يا إخوان أن الذي تقولونه شرعاً لا يجوز... لا يجوز».

وبعد أن ردّ عليه طبيب في الجلسة بأن لهم الحق في المشاركة بالقرار لأنها ثورة شاركوا فيها منذ البداية، وأنهم الأساس قبل أن يأتي العسكر عليها، قال له كعكة: «نحن بالأساس لم نكن موافقين على خروج المظاهرات، كنتُ في سجن صيدنايا حين قمتم بمظاهراتكم، وكان البعض يستفتوني فيما يحدث، فأجيبهم أن المظاهرات حرام ولا يجوز الخروج على الحاكم. لكن عندما أذن الله بجهاد الشام، خرجنا للجهاد، وقد أذن لنا علماؤنا بجوازه، وكلكم هلّلتم لنا حين كنا نُحقّق الانتصارات. والآن لم نعد نعجبكم. الجهاد صولات وجولات وفيه ابتلاء ومحنة، وعلينا بالصبر».

فسأله أحدهم: «وهل سألتم مشايخكم عن رأيهم الآن؟»، فأجاب بصراحة: «بالطبع، وكان رأيهم أن الخروج أسلم، لكن هناك واقعاً على الأرض لا يحيطون به كما نحيط، ونرى أننا قادرون على البقاء في أرضنا». وأردف: «عندما أنهيتُ الصلاة في المسجد جاء إلي طفل وسألني: «أنت كعكة؟» فأجبته نعم أنا أبو عبد الرحمن، فقال لي إن هناك شائعات أنني خرجتُ مع قيادات جيش الإسلام خارج دوما، فقلتُ له أين سأذهب وأترك دوما. أنا سأظل معكم وبينكم»، وبكى وهو يقول: «لمن سنترك هذا الطفل من بعدنا؟!».

وصلت النقاشات إلى طريق مسدود وحدثت انسحابات متكررة من الجلسات التي كانت تستمر لساعات طويلة، إلى أن قال قائد جيش الإسلام، عصام البويضاني: «يبدو أننا لن نلتقي في خياراتنا، ولذا علينا أن نجد حلاً توافقياً. من شاء الخروج فليخرج، ومن شاء البقاء فليبقَ. ونستطيع في التفاوض أن نؤمّن خيار الخروج، أما من يريد أن يبقى فلا يجبره أحد».

لم يترك طرحه مجالاً أمام اللجنة المدنية لترفض ما وصفه أحدهم لاحقاً «بالمقامرة بالمدنيين». وخرجت أول دفعة في أول نيسان. ويبدو أنه تم إيهام القوات الروسية أن المقاتلين سيخرجون تالياً على المدنيين، لكن عندما أعلن جيش الإسلام في 6 نيسان أن الدفعات انتهت، عرفت القوات الروسية أن جيش الإسلام اختار المواجهة، فعادت إلى القصف وارتكاب المجازر. وبدأت قوات الأسد هجومها البري، وكللت نهاية مجازر الغوطة بقصف الكيماوي يوم 8 نيسان، فاختار بعدها جيش الإسلام الانسحاب، و«عادت» الغوطة إلى «حضن الوطن» الذي يقع «سقفه» تحت «البوط العسكري» تماماً.

لكن جيش الإسلام كان يخبئ مفاجأة لمؤيدي الأسد، وللقوات الروسية، ولنا جميعاً. وهو موضوع المختطفين والمعتقلين لديه. كانت القناعة أن هناك آلافاً من المخطوفين لديه، وظلّ يلعب على هذا القناعة حتى آخر لحظة، ويستخدمها كورقة للضغط في التفاوض. وحين أعلن موافقته على الانسحاب، وتسليمهم لقوات الأسد، لم يخرج إلا بضع مئات. كان آلاف الأهالي ممن كانوا يظنون أقاربهم مخطوفين ينتظرون في ملعب الفيحاء بدمشق قدومهم، قبل أن يكتشفوا أن لم يبَق أحدٌ لدى جيش الإسلام. وكان الفيديو الشهير الذي اتهموا فيه وزير المصالحة ببيع أولادهم، وعفّشوا شعاراتنا لينادوا بإسقاطه، كما أسقطوا محافظ حمص مراراً، دون أن ينسوا الهتاف لفداء «صرماية» بشار الأسد.

 

نقلًا عن موقع "الجمهورية" 25 حزيران 2018 

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق