مالذي حدث في الغوطة الشرقية؟ (4)

بقلم: أوس المبارك
(10)
ربما يبقى تساؤل أخير بما يخص «الضفادع» والحالات المشابهة التي حدثت في المدن والبلدات التي دخلتها قوات الأسد: أين قضية الثورة لدى هؤلاء المقاتلين الذين كانوا محسوبين عليها؟ أين عداؤهم للأسد الذي ارتكب المجازر المروعة بأهلهم وأطفالهم حتى ساعات قبل دخوله إليهم؟ أين العقيدة؟!
هذا السؤال مُثقَلٌ بما جرى طوال ست سنين، وسأحاول الإجابة عليه في حالة الغوطة بأقصر وأوفى ما أقدرُ عليه.
قبل تحرير الغوطة ومع بدء العمل المسلح، على يد مقاتلين محليين بغالبيتهم خرجوا من أجل تخليص مدنهم وقراهم من إجرام الأسد وعصاباته، واجهت هؤلاء مشكلة التصرّف مع جواسيس الأسد وجنوده والمتعاونين معهم، هل يقتلونهم أم يأسرونهم أم يبادلون عليهم مع معتقلين لدى الأسد؟ لم يكن من السهل حينها، مع عدم التعود على القتل آنذاك، أن يقتلوا أي «عوايني» أو أسير من جنود الأسد، خصوصاً أن كثيراً من الأخيرين قد يكونون ممن يؤدون الخدمة الإجبارية في الجيش، ولأنه «لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ نفساً حراماً»، فلجؤوا إلى المشايخ ليفتوا لهم بما يجب فعله مع كل شخص. قلّةٌ من لم ينضبطوا في هذا الطريق و«استحلّوا» لأنفسهم قتل العواينية والأسرى، وهؤلاء كان شعارهم «علينا الدرز وعلى الله الفرز». في بعض الحالات لم يكن من السهل اتخاذ القرار فيها من شيخ لوحده، فكثيرٌ منهم ليس لديه تحصيل أكاديمي أو تخصص في هذه الشؤون، ولذا تم تشكيل «هيئة شرعية» في كل مدينة وقرية من تجمع مشايخها، لتقود «التوجيه الشرعي» في مواجهة الأسد وعصاباته.
بعد تحرير الغوطة من قوات الأسد نهاية عام 2012، أوقف الأسد عمل مؤسسات الدولة فيها، كالبلدية والمنشآت الطبية والمؤسسات الاستهلاكية والسجلات المدنية والعقارية وكل شيء، وقطع الماء والكهرباء وأي خدمات ممكنة، وترافق ذلك مع القصف المستمر يومياً. لم تكن آنذاك قد نشأت مؤسسات سوى الهيئات الشرعية والمكاتب الطبية والمكاتب الإغاثية، فحملت الهيئات الشرعية على عاتقها تنظيم الأمور الخدمية والإدارية، وأنشأت ضمنها مكاتب قضائية وخدمية، قبل أن يتم تشكيل عدة هيئات شرعية موحدة من الهيئات الشرعية في المدن والقرى والتابعة للفصائل العسكرية (وهو ما يحتاج بحثاً منفصلاً فيها)، كان أبرزها الهيئة الشرعية لدمشق وريفها، ذات النفوذ الواسع في نواحي كفربطنا وعربين والمليحة، أي القطاع الأوسط والجنوبي من الغوطة. والهيئة الشرعية العامة ذات التوجه (الحنبلي – السلفي) التي كان نفوذها محصوراً في مؤيدي لواء الإسلام آنذاك، وهي تابعة له. والسلفيون كانوا أقلية لا تتجاوز 5% بين سكان الغوطة، معظمهم في مدينة دوما التي يشكلون فيها أقلية أيضاً، ذلك قبل أن يتوسع نفوذ لواء الإسلام الذي تحوّلَ إلى جيش الإسلام بعدها، ويصبح مهيمناً على قطاعي دوما والنشابية.
بعدها نشأت مجالس محلية في المدن والقرى، تسعى إلى تصدّر العمل المدني وتقديم الخدمات للسكان والتمثيل السياسي. كان هيكل المجالس يضم غالباً، تحت رئاسة المجلس، مكاتب إغاثية وطبية وخدمية وشرعية ومالية وعلاقات عامة، وأحيانا قانونية وأمنية وارتباطاً عسكرياً. ويتم تشكيلها إما عبر التعيين من الوجهاء والقادة العسكريين، أو عبر انتخاب (هيئة عامة، أمانة عامة، لجنة انتخاب... إلخ) مكونة من عدد من الوجهاء والنشطاء والعسكريين. وبرغم هيكلها البدائي حينها، وعدم خبرة معظم كودارها في العمل العام والإداري، إلا أنها كانت بالنسبة لكثيرين فرصة لتأسيس عمل مدني إداري مستقلّ يسعى لتمثيل سياسي يحقق مبادئ الثورة ويكون نواة لعمل سياسي أوسع.
تنازعت بعض المجالس مع الهيئات الشرعية على «الشرعية»، كان أبرزها ما حدث بين مجلس الشورى التابع لجيش الإسلام، الذي يضمّ الهيئة الشرعية العامة، وبين المجلس المحلي في مدينة دوما الذي تشكل حينها من توحد عدة مجالس محلية كانت موجودة في المدينة. لكن الأمر دان مع مرور الوقت للمجالس المحلية، وتطورت تدريجياً، فيما بقيت «القضاءات» تخضع لسلطة العسكر والمشايخ.
ما يهمنا في الحديث عن المجالس المحلية، بعيداً عن تحسن أدائها داخلياً كمؤسسة، هو علاقتها مع السكان، فقد كان الرأي الأعم رافضاً لإجراء انتخابات عامة معظم الوقت، ولم يتغير هذا الحال إلا في الأشهر القليلة التي سبقت سقوط الغوطة، وفي مدن وبلدات قليلة. كما كانت الشفافية مع السكان شبه معدومة، سواء على صعيد خطة عمل المجلس أو وارداته أو رواتب موظفيه أو مشاريع تمويله الذاتي أو احتياطياته من المحروقات والمواد الغذائية، كما أنه لم ينتج قنوات اتصال فاعلة مع السكان لشرح إمكاناته وما يستطيع فعله وما لا يستطيع، وما يمكن أن يصنعه سماع المواطنين من تحسن العلاقة. إضافة إلى التنازعات الدائمة بين التيارات والشخصيات المختلفة حول تشكيل المجلس وطريقته وسبل الهيمنة عليه.
بسبب ما سبق، كانت العبارة الأكثر شيوعاً بين السكان عند ذكر كلمة «مجلس محلي» أو غيرها من المؤسسات العامة: «مين حطهن؟!». إضافة إلى اتهامهم الدائم بالسرقة سواء كانت هناك سرقة فعلاً أم لا، وسهولة تصديق الشائعات عنهم.
وبالعودة إلى القضاء، كانت هناك عدة قضاءات في الغوطة قبل بداية عام 2014، قضاءٌ تابع للهيئة الشرعية لدمشق وريفها، وآخر لجيش الإسلام، وآخر لجبهة النصرة، وآخر للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام. وجميع الفصائل لديها سجونٌ لا ينحصر مسجونوها بعناصر قوات الأسد أو أعوانها، ولا تنضبط كل الفصائل بأحد القضاءات الموجودة، وكلها كانت قضاءات شرعية تكفّر العمل بالقانون السوري وترفض إجراء تعديلات عليه، دون وجود نصوص قانونية تعتمد الشريعة الإسلامية ليستندوا عليها. أي أن الاعتماد في الحكم يكون على حسب اجتهاد القاضي أو الشيخ، ويبدأ الحكم الصادر دوماً بجملة «بناء على أحكام الشريعة الإسلامية»، لا برقم مادة من القانون. ولم يكن هناك طعون أو سماح بوجود محامين عن المتهمين، وكان التعذيب أداة للتحقيق، مع اختلاف درجة شدته ونوعيته في القضاءات المختلفة وفي سجون الفصائل المختلفة، وكذلك في المخافر التي كانت تتبع لإحدى تلك الجهات حسب النفوذ.
توحدت كل قضاءات الغوطة مع بداية عام 2014 بقضاء شرعي موحد، باستثناء جيش الإسلام الذي رفض الاندماج لوجود جبهة النصرة فيه، أمّا الإجراءات والآليات والنهج العام له فظلت استمراراً لما كان في تلك القضاءات قبل التوحد. عند تأسيسه، كان القضاء الموحد مُهيمناً عليه من المشايخ المدعومين من الفصائل، ولم يكن هناك وجود لمحاكم مدنية أو جزائية أو أي هيكل من هياكل القضاء المعروفة، وكان عمل خريجي الحقوق فيه مرفوضاً، باستثناء بعض الذين كانوا يتبعون لفصائل إسلامية ويتبنون نهجها.
في إحدى المرات عام 2013 زرتُ مع رزان زيتونة، فكَّ الله أسرها، مخفراً كان قبل أيام قد نفّذ حكماً بالجلد في ساحة عامة على شخص تلفّظ «بكفرية»، عرفنا بعدها أن المخفر يتبع للواء الإسلام آنذاك. كان رئيس المخفر طالباً غير متخرج من كلية الحقوق، وحين سألته رزان عن القانون الذي يعتمدونه، أجاب ليتفادى الردّ بأنهم لا يعتمدون قانوناً، بالقول إنهم يعتمدون القانون العربي الموحد، فأجابته رزان أن القانون العربي الموحد لا يحتوي أحكام جلد، فقال إنهم سيعدلونه ليحتوي أحكام الجلد! وحين طلبت زيارة سجن المخفر، أجاب أنه غير مُهيأ لزيارته.
في اليوم ذاته زُرنا هيئة شرعية، كانت أجوبة الشيخ مريعة، لكنه أدرك أنه أمام حقوقية ليست ذات شأن قليل، وأن مواضع الخلل لديهم تتضح من خلال أسئلتها، فقال لها بعد أن احمرّ وجهه: «بدك تعرفي يا بنتي إنو نحنا هون عم نمشّي أمور الناس على قدر استطاعتنا لأنو ما ضل في قضاء ولا دولة وهربوا المثقفين [يقصد حملة الشهادات الجامعية كما يصطلح تسميتهم في الغوطة] وما فينا نعمل أكتر من هيك». كان تصريحه وقناعته بذلك استثناءً في الوضع العام، وأحبته رزان كثيراً وظلت تكنيه «بالشيخ الأحمر» لشدة احمرار وجهه الأبيض حينها.
في كل المراحل التي مرّت فيها تجربة القضاء في الغوطة، وبعد خطف رزان التي كانت تعمل على تأسيس قضاء مدني مستقل، وبعد أن انضمّ جيش الإسلام إلى القضاء وخرجت جبهة النصرة، كان المشايخ هم أصحاب الهيمنة، ذلك رغم تطوير الهيكلية ليشابه القضاء المعروف تقريباً، وبرغم ضمّ بعض الحقوقيين والقضاة المنشقين إليه والسماح بوجود محامين في المحكمة المدنية فقط، وبرغم اتباع القانون السوري في العام الأخير ضمن المحكمة المدنية في فرع قضاء القطاع الأوسط الذي كان يخضع لسلطة فيلق الرحمن، لكنه مع ذلك لم يتم إعلان اعتماد أي قانون أبداً. ظلت الأحكام تصدر باسم «الشريعة الإسلامية»، الكلمة الفضفاضة وسهلة الليّ. وكان القاضي العام دوماً، أو رئيس مجلس القضاء الأعلى، شيخاً يتبع لإحدى الفصائل، وكان البتّ في القضايا يحدث بحسب القضية إن كانت تهمّ فصيلاً ما، وبحسب التوازنات فيها، وهو ما لا يمكن التكهّن بنتائجه سلفاً. وفي حال التنازع بين مدني وعسكري، «فالمجاهدون» لهم حصانة بنسب متفاوتة بحسب القضية، ولا يحق لشيخ تابع لفصيل أن يتدخل في محاكمة «مجاهد» من فصيل آخر، قبل أن يحدث اقتتال عام 2016 ويصبح لكل فصيل قضاؤه، ويضاف إلى الانفصال في المضمون انفصالٌ في الشكل أيضاً.
أما الفصائل التي سنختصر بشأنها كثيراً، فقد التفتت إلى الداخل أكثر تدريجياً بعد تحرير الغوطة، أو بالأحرى استطاعت توضيح توجهاتها للسيطرة على المجتمع ومؤسساته، والعمل والحركة أكثر في هذا الشأن رويداً رويداً. وقد بلغت ذروة نفور الناس منها في الاقتتال الأخير عام 2017 بعد سلسلة اقتتالات وحملات لسحق فصائل أخرى، غير تلك التي تمت للقضاء على داعش. ووصلت الحال مع جيش الإسلام في رفض وجود أي تيار مدني مستقل أو معارض له في مناطق سيطرته، وبدأ فيلق الرحمن بالسير على النهج نفسه، بشكل مخفف وأقل حدة، لكنه يبتغي الوصول إلى النتائج نفسها، لولا بدء المعركة الأخيرة.
مع هذا الحال التي تم التركيز فيها على العيوب أكثر من كثير من الإيجابيات والأمور المشرفة والقيمية التي عرفتها الغوطة، وبهدف الجواب على السؤال المطروح، ومع إضافة عامل الزمن، وعامل المعركة الأخيرة المهولة، كل هذا أدى بكثيرين إلى تغيّر تقديرهم وفهمهم للأمور.
بدأ كثيرون يجرون المقارنات بين «النظام» وبين «البديل» الذي تكوّنَ أمامهم. مقارنات لم تكن منصفة، لكنها نتاج وضع كارثي نما في الحصار المديد المرير وتحت القصف وبين «بنى ثورية» لم تجعل للمواطن أولوية في حساباتها.
«كان عنا بشار، طلع عنا ألف بشار»
«عالقليلة النظام منعرف شو بده، هدول ما منعرف شو بدهن»
«النظام بيطعمينا وبيجبلنا الكهربا والمي وبيوقف القصف علينا، هدول ما بيطعمونا ومخبين الأكل بمستودعاتهن وفوقها راكبينا»
«طلعنا بالثورة على أساس كرامة وحرية، انذلينا وجعنا وما عاد الواحد فيو يحكي كلمة».
بالنسبة لكثيرين في هذا الوضع أصبح «للنظام» التفضيل، بسبب تقديمه للخدمات التي حرمهم منها في الحصار، ولسبب لم يُذكَر مباشرة، لكنه كان واضحاً في مقاصدهم: إنهم يعرفونه. يعرفون كيف «يمشّوا أمورهن» معه. طبيعة علاقات السلطة والواسطة والرشوة، وما هو ممكن وما هو غير ممكن، مفهومة لهم بعدما خبروه لعقود. كان النظام بعبارة أخرى: واضحاً.
لكن «البديل» لم يكن كذلك. لم يكن مفهوماً كيف تجري الأمور في القضاء، ولا كيف توزَّع سلل الإغاثة القليلة، ولا كيف تعمل المنظمات التي لم يكن لدى معظمها شفافية مع الناس أيضاً، ولا كيف يعمل المجلس، وهل حقاً تصله مبالغ طائلة لا نرى منها شيئاً ونحن جوعى؟
كان سكّان الغوطة بمعظمهم قد فقدوا كل أمل قبل بدء المعركة، وحين بدأت المعركة التي لم يشهدوا مثيلاً لها من قبل، فقدوا صوابهم تماماً. كان الجميع يشعرون، ومنهم أنا، أنهم لن ينجوا من القصف خلال الساعات القادمة، وربما الدقائق! حدّثني صديقٌ أنه رأى هادي المنجد، مراسل قناة أورينت سابقاً، وهو متجه إلى المعبر للخروج من الغوطة، فقال له: «هنا موت حتمي، لكنني إن خرجت فلديّ فرصة لأحيا». ونكصوا إلى المثل: «الإيد اللي ما بتقدر عليها، بوسها وادعي عليها بالكسر».
قناعتي أن هؤلاء الناس الذين عرفتُهم وعشتُ معهم طويلاً، يعلمون أن الأسد هو سبب بلائهم بقطعه الخدمات عنهم وبقصفه وحصاره وتجويعه لهم، وتركهم دون دواء كاف وبخدمات طبية ومعيشية سيئة. لكنّ التمسك بتلك الحقائق لم يعد يعنيهم، يريدون الخلاص، وما قالوه وقاموا به أخيراً هو أواليات دفاعية من أجل ذلك. لم يكن مضمراً، وإنما ناتجاً عن قدرة عصابة الأسد، المديدة ومهولة العنف، في التأثير.
(11)
كخاتمة، لم أتطرق إلى ما يمكن أن يكون قد تمّ ترتيبه من اتفاقات دولية في سقوط الغوطة، لأن تقديري هو أن هذا لم يكن عامل تأثير في أخذ الفصائل خيار المقاومة وفي مجريات الأمور ميدانياً من طرف الفصائل. وأستبعدُ، بحسب ما شهدت، أن يكون قادة الفصائل اختاروا تسليم الغوطة منذ حدوث أي اتفاق دولي. ليس فقط لأنني لا أظنهم عملاء وشركاء في الصفقة كما أُشيعَ خلال المعركة، بل لأنه ليس من السهل على من بنى جيشاً وسلطة ولديه القوة والنفوذ أن يُقال له إن كل هذا سينتهي، وربما يكون هذا سبب التعنت بعد أن اتضحت مآلات المعركة.
كذلك حتى لو أدرك قائد فيلق الرحمن، مثلاً، أن سقوط الغوطة غدا مسألة وقت، وتقديري أنه أدركه بعد سقوط حمورية وسقبا وجسرين، فإنه ليس سهلاً أن يقنع قادته والمقاتلين بالتسليم، خصوصاً أنه كان يُنظَر إليه دوماً بعين الريبة باعتباره ضابطاً حمصياً، ويُقال إن أخاه ضابط في الحرس الجمهوري، وهو أصبح قائد ثاني أكبر فصيل في الغوطة التي تكوّنت لدى أهلها في الحصار نزعة رفض الخضوع لحكم أحد من خارجها. ولطالما سمعتُ في الغوطة كلاماً عن أنه عميل وخائن، وأنهم لا يعرفون من أين أتاهم، ولذلك جرى أبو النصر مع الأمور حتى نهايتها، برغم ما كلَّف ذلك الغوطة من شهداء وجرحى ودمار، وما عاناه الأطفال نفسياً وصحياً، وعاناه أهلهم معهم.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الماضي القريب، الذي تعرّضَ بفعل الصدمة النفسية والتراكمات التي سبقته إلى تشويه من قبل كثير من الناشطين، وتركيز على أوهام تجذرت وتفاصيل هامشية لم تؤثر في مسار الأمور، أصبح «مجعلكاً» وتم الدوس عليه، دون أن تتم مراجعته بلا انفعالية ليكون سبيلاً للاستفادة والتجاوز الإيجابي، كما تطرح رواية السمان والخريف التي كانت أحد آخر الكتب التي قرأتُها في الغوطة لحسن الحظ.
وقد تكون بعض المقاربات وقراءة الأحداث وطريقة سردها متأثرة بالتجربة الذاتية، رغم محاولتي عدم البدء بكتابتها قبل مرور شهرين على انتهاء المعركة لأبتعد عن الانفعال والصدمة، وقد تختلف تقديراتي بعد زمن من الآن، بسبب ما يمكن أن أحيط به من معلومات جديدة، وربما بفعل الزمن نفسه. غير أن الغوطة وقصتها الثورية لا يمكن أن تقتصر على هذه المادة وما ذُكِرَ فيها، بسبب تعلقها بأسباب المعركة ونتائجها، فمظاهرات الغوطة الأولى، وشجاعة شبابها ونضالهم السلمي وتضحياتهم، مروراً باختيار الدفاع عن النفس، إلى معارك تحرير الغوطة، والعمل المدني المستقل فيها، وتفاعلها الاجتماعي – السياسي، والتحولات التي نتجت عنه، والتجارب الإنسانية العميقة، تستحق أن يكون لها شأنٌ في الكتابة لم يُنجَز بعد، لا لأنها تؤرخ لما قد يكون له امتداداته العامة في سوريا وحسب، أو وفاءً لمكان نَحَتَ فينا وغيّرنا وأعطانا أكثر مما ضحينا به من أجله ومن أجل الثورة، بل أيضاً لأن الكتابة عنه ستكون إضافة معرفية لنا قبل غيرنا، وللعالم كله أيضاً، بحدّته ومفارقاته وتطوراته... واعتلاله

موقع "الجمهورية" 25 حزيران 2018

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق