تقزيم مطالب السوريين


بقلم: باسل العودات
لعبها النظام السوري بمهارة، هذا النظام الذي سخّر إمكانات دولة كاملة لخدمة حربه وبقائه، استطاع أن يُقزّم مطالب السوريين وثورتهم إلى مجرد دستور، وليس أي دستور، بل دستور يُشرف على وضعه حليفه الروسي، شريكه في الحرب والتدمير، ويُشارك شكليًا في كتابته حفنة من عتاة النظام، وحفنة من هواة المعارضة، ومثلهم من جماعات “المجتمع المدني” الذي لا يعرف السوريون حتى الآن ماهيته وتعريفه.

استطاع النظام السوري، بمساعدة مباشرة من الروس، ورخاوة من الأميركيين والأوروبيين، وعدم اكتراث من الدول الإقليمية والعربية، أن يختصر مطالب الثورة إلى أدنى حدودها، وصار الجميع يتحدث بأن الدستور هو الحل، ويضغطون لوضع دستور في زمن الحرب، في ظل نظام أمني حربي مخابراتي، لن يُمرر أي مادة لا تتوافق مع أبديته.
قزّم النظام السوري ما أراده السوريون. فالدولة الديمقراطية التعددية التداولية، دولة الحريات والقانون، ودولة المواطنة، ودولة المساواة والعدل، صارت أشياء مؤجلة إلى ما بعد بعد الدستور، الذي سيوضع دون آليات واضحة لتنفيذه، ودون ضامن واضح لترسيخه، ودون بيئة حيادية سليمة ديمقراطية تحرص على احترامه والالتزام به.
وعلى الرغم من هذا التقزيم، يستمر النظام في رفض فكرة تغيير الدستور أو كتابة واحد جديد، لأنه يريد أن تبقى السلطة المطلقة بيد الرئيس وأعوانه، وأن تبقى الأجهزة الأمنية فوق أي قانون أو دستور، وأن يبقى الانفلات والتمييز والفساد هو الدستور الوحيد لسورية.
منذ نحو عام، حوّل النظام السوري وروسيا المعركة مع المعارضة، من فكرة ثورة إنسانية سياسية شاملة، إلى فكرة تشكيل لجنة دستورية، و”اخترعا” أستانا وسوتشي وغيرهما، وأغرقا الأمم المتحدة بالتفاصيل، وشن الجميع حملات دبلوماسية وإعلامية، لإقناع الجميع بأن الدستور هو الغاية والهدف والمُنتهى.
تجاهل الجميع كلّية أن أي دستورٍ قويم لأي دولة متحضرة في العالم هو دستور يناسب السوريين، وأن أي دستور مؤقت فيه صونٌ كامل للحقوق الأساسية للبشر سيكون محل ترحيب، وأن أي دستور تضعه الأمم المتحدة “ترقيعيًا” سيكون مُرحّبًا به من قبل السوريين، بل حتى الدستور الحالي سيكون مقبولًا، إن عُدّلت المواد التي وضعها الرئيس لتمنحه صلاحيات مُطلقة لحكم شمولي أبدي.
بعد مليون من القتلى، ودمار ما يقرب من 60 بالمئة من بنى سورية التحتية، وتحوّل الثورة إلى حرب إقليمية – دولية؛ باتت اللجنة الدستورية هي الحديث الوحيد، وهي لجنة ضعيفة حتى إن أحدًا لن يسمع صوتها خارج قاعة اجتماعاتها، ولن يقرأ أحد سطرًا مما ستكتب، وستوقّع في النهاية على مسودة دستور معدّة مسبقًا، لا تُناسب إلا الجلاد.
يريد الروس -بأيّ ثمن كان- أن يُقيموا عرسًا للجنة الدستورية السورية، عرسًا على طريقة أعراس الثامن من آذار وأعراس الحركة التصحيحية، حيث يرقص السوريون رغمًا عن أنفهم في الساحات، احتفالًا بمعذبهم وسجانهم، وبدولتهم المقموعة وكلمتهم المكبوتة وحياتهم السياسية المُغتالة، وبدولتهم الأمنية التي أكلت شعبها وطحنته في السنوات الثماني الماضية.
المشكلة السورية ليست دستورًا فحسب، وليست الأولوية للدستور، إنما هي لحماية البشر، ووقف آلة الموت، وإنهاء سطوة الأجهزة الأمنية، وتأمين الشروط التمهيدية لعمل هيئة انتقالية أقرتها كل قرارات الأمم المتحدة، تُجمّد عمل النظام، وتضع آليات كتابة الدستور وضماناته، وتسعى لتحقيق العدالة الانتقالية.
العملية الدستورية هي جزء من كتلة متكاملة، وليست بندًا منفصلًا بحد ذاته، وما لم تتواز المسارات كلها، وبخاصة مسار المعتقلين، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، والعملية الانتخابية، والملف الأمني؛ فإن كل ما يجري هو تقزيم لمطالب السوريين، ولا يمكن أن يكون لبنة أولى في مستقبل سورية.

نقلا عن شبكة جيرون الإعلامية 5 يوليو 2019

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق