سلوى زكزك.. يوم لبست وجه خالتي الغريبة


"أنتظر المساء كل يوم، لأخرج وسادة النوم والغطاء الرمادي الموحد لكافة النازحين أمثالي، وحين يغطي أجسادنا، نتحول إلى مجرد كتل رخوة مختومة بشعار المنظمة الدولية للاجئين، رماديين وقانطين وخائفين". تقول المرأة الوحيدة التي تعيش في مستودع للصناديق منذ عامين، ولا تملك سوى مفتاح بيتها الذي هجرته مرغمة، وصور أولادها الذين ابتلعتهم البلاد الغريبة، وصورة أبيها الذي خرج من منزله واختفى. تقول لنفسها وهي تدرك أن قريباتها يحسدّنها على سكنها المجاني، وتشعر بالخوف من أن تخسره، وتضطر مجددًا للنزوح إلى المجهول، بعد أن سمعت أنه بات مطلوبًا من الساكنين إبراز عقد إيجار أو وثيقة استضافة.

ومع هواجس المرأة الوحيدة في مستودع مهجور، ما بين أول الليل وأولى خيوط الفجر، تفتتح الكاتبة السورية سلوى زكزك عوالم مجموعتها القصصية "يوم لبست وجه خالتي الغريبة"، وتهديها إلى "السوريات البهيات.." بطلات قصصها، وأمثالهّن من النساء الصامدات في أقسى الظروف، شابات ومسنات، يتحديّن الوحدة والعوز والغياب، ويحاولن النجاة ومواصلة العيش في الوقت المستقطع ما بين القذائف والكوارث، وفي بلد تحولت فيه "مراسم الموت والدفن إلى النشاط الاجتماعي الأول بعد انحسار مظاهر الحياة الطبيعية".
 بطلات الكتاب لسّن من المثقفات ولا المعتقلات أو الإعلاميات والناشطات السلميات، هنّ النساء العاديات، المهمشات، الموجوعات والمقهورات، اللاتي لا يُجدّن التعبير عن أنفسهن، هنّ المهجرات قسرًا، ربات المنازل الفقيرات، الأمهات الوحيدات، المسنات على سرير الموت، بائعات الخبيزة والخياطات وزبونات عربات الألبسة المستعملة "البالة"، وبحضورهنّ ترسم سلوى وجهًا آخرًا للمحرقة السورية، ومفهومًا مختلفًا لمعنى البطولة، وعلاقة السوري بأبسط مفردات الحياة.
أم صادق في قصة "معايدة" تصوغ نصًا من الكوميديا السوداء عن علاقة النازحين بالزمن، فهي تقيم وحيدة في الحديقة العامة منذ ثلاثة أعوام، وتعتمد على زقزقة العصافير للخروج من جحرها الذي صنعته من لوحين خشبيين وستارة بلاستيكية، وبينما كانت منهمكة بتفقد أغراضها المبلولة بالمطر، فاجأتها مذيعة شابة بالسؤال، عما تريده في العيد؟ ارتبكت أم صادق، فقد نسيت معنى العيد، ولم تعد تعرف في أي سنة أو يوم أو ساعة تعيش، لكنها ما لبثت أن تداركت نفسها ووقفت بثقة أمام الكاميرا، وهي تقول: "أريد ساعة حائط وروزنامة!! وكل عام وأنتم بخير".
 تغوص سلوى في أعماق بطلاتها، وتكتب عن عذاباتهن بقلم يفيض بالحب والحنان، تسرد قصصهنّ تارة بضمير المتكلم، وأخرى بضمير الغائب، ويحتل موضوع الأمهات اللاتي فارقّن أولادهنّ بسبب الحرب مكانًا خاصًا في المجموعة، ومن بين القصص تطل أم، بينها وبين الموسيقى "ثأر اسمه الانتظار"، لأنها حين سافرت لتلتقي ابنها بعد سبع سنين من الفراق، لم يحضر إلى المطار لاستقبالها ولا لوداعها، فقد كان مرتبطًا بعدة مواعيد للعزف في حفلات موسيقية لا يستطيع إلغاءها ولا تأجيلها. وتطل أم أخرى توزع الحلوى لأن ولدها وصل سالمًا إلى البلد الغريب، وثالثة تبيع خاتم زواجها لتشتري مكانه خاتمين لفتاتين خطبتهما لولديها الغائبين، وتقول الكاتبة: "غدا ستنتهي الحرب! سترحل بعيدًا معترفة بأنها لم تهزم امرأة قط!".
في المقابل تكتب سلوى عن امرأة تحاول شراء حبوب لإجهاض جنينها من علاقة غير شرعية، تصف نظرة الصيدلاني لها، وتتحدث عن أب الطفل الذي يعلم بحملها ويغلق جواله، وعن لحظة التمرد يوم قررت أن تتحدى التقاليد، وتهب جسدها لمن تحب... فهي "تريد حبًا وعيشًا وتفاصيل تنعش الجسد وترويه، لا تريد طفلًا يفرض وجوده دونما رغبة منها بأن تصبح أمًا، أو يشترط بقاؤه حيًا، صكًا وورقة بإذن رجال العائلة والشيخ".
حركة الشخصيات في الشارع والأسواق وأمام عربات الملابس المستعملة، تعكس صورة واقعية عن الاقتصاد المنهار والقوة الشرائية المتدنية، وعن كيفية الحياة في زمن الحرب، ففي قصة "هدوء نسبي" تعود سميرة بشوق كبير إلى جرمانا، حيث قضت عشرين عامًا في بيتها، قبل أن يضطرها الغلاء الفاحش إلى تأجيره والمكوث في ضيعتها، تعود ليوم واحد وفي نيتها شراء الكثير من المستلزمات لها ولأسرتها، وداخل السوق تغرق في الزحام و"حالة امتزاج فوضوية ما بين التجاري والسكني، وجلبة ترفع درجات الأدرنالين لحدود الأزمة القلبية"، ثم فجأة تجد نفسها وهي تركض مع الراكضين فور سماع دوي انفجار، وبعد قليل تعود الأمور إلى سابق عهدها، وحول عربة البالة تجتمع النسوة "يشرحن حجم القذيفة ومكان انفجارها وعدد ضحاياها، غير متناسيات ذكر بعض أسمائهم أو عناوين سكنهم والترحم عليهم".
ترسم المجموعة القصصية تفاصيل حياة هشة وناقصة بكل المعايير، تستمر بحكم غريزة البقاء، وتضبط إيقاعها على القوة القاهرة للحاجة القصوى إلى الماء والخبر والكهرباء، وكأنها في حالة طوارئ، ولكل تفصيل نفيره الخاص: "فجأة يتحول الطريق المزدحم والمختنق بأنفاس العابرين وبعوادم السيارات إلى صحراء قاحلة ومعتمة، وكأن أمرًا حاسمًا من كلمتين، أمر الجميع بإخلاء الطريق فورا". ولا تلبث الكاتبة أن تخبرنا بسر اختفاء البشر المفاجئ، فقد "جاءت المياه، والصنابير حبلى بقطرات الماء"، وعلى البشر أن يستغلوا فرصة قدومها المحدود والقصير للاستحمام والتنظيف والغسيل وإزالة كل الأوساخ المتراكمة خلال فترة انقاطعها الطويل، وفي هذا الطقس السريع "حتى وجبة الغسيل كانت تُجبر على المرور بولادة قيصرية".
تتنقل سلوى من مكان إلى آخر في أرجاء دمشق وضواحيها، وتنقل مشاهداتها وانطباعاتها للقارئ بالكثير من الشفافية ورهافة الحس، وضمن الحدود المسموح بها في بلد تحكمه واحدة من أشرس الدكتاتوريات. تتحاشى الاقتراب من المعارضة أو ذكر الثورة، ولا تسأل عن منطقة المنشأ، أو المعتقد الديني والسياسي للشخصيات، تبحث عن هوية الوجع الجامع الذي يوحد بطلاتها في حرب طويلة الأمد، فُرضت على شعب أعزل، و"للحرب مقاصل متعددة، منتشرة كما الفطر وكما الرصاص وكما الغياب، غياب يلف الجميع ويطويه بعباءته، من البشر وحتى نقطة الماء".


تهامة الجندي
25 يناير 2020

*الكتاب: يوم لبست وجه خالتي الغريبة، المؤلفة: سلوى زكزك، 90 صفحة، الناشر: دار أتار، سوريا، دمشق 2019.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة