وداعًا عمر أميرالاي

كانتْ أول صورة التقطتها عدسة المخرج عمر أميرالاي هي اقتلاع حجر من شارع في باريس أيام انتفاضة الطلبة عام 1968، وكانت آخر الصور التي أغمض عليها عينيه ثورة الشباب العربي في تونس والقاهرة، قبل أن يغادر الحياة، وبين المشهدين وهب صوته للمعارضة، ونذر فنه للدفاع عن هواء حر يتقاسمه الجميع.

وُلد أميرالاي في دمشق عام 1944، وبدأ رحلته الفنية برسوم الكاريكاتير التي نُشرت في بعض الصحف السورية واللبنانية، وفي عام 1964 دخل كلية الفنون الجميلة، لكنه لم يكمل الدراسة، بل غادر إلى باريس لدراسة السينما عام 1966، ومرة أخرى لم يحالفه الحظ في إكمال تحصيله الأكاديمي بسبب أحداث الطلبة، غير أنه بعد عودته إلى وطنه استطاع أن يشق طريقه في عالم السينما التسجيلية كمخرج له بصمته المميزة وإسهامه الخاص.

قدَّم أميرالاي فيلمه التسجيلي الأول "محاولة من وادي الفرات" عام 1970، ومن بعده "الحياة اليومية في قرية سورية"، ثم "الدجاج"، كما أسهم في تنشيط النادي السينمائي بدمشق، قبل أن ينتقل للعيش والعمل في باريس عام 1980 وحتى أواخر حياته.

وكان أميرالاي الوحيد من بين معاصريه السوريين الذي ظلَّ وفيًا للفيلم التسجيلي طيلة رحلته الفنية التي استمرت أربعين عامًا، وأسفرت عن عشرين فيلمًا، صوَّر خلالها حياة الناس البسطاء، كما رسم بورتريهات لقادة سياسيين كرفيق الحريري وبناظير بوتو، أو شخصيات ثقافية هامة كسعد الله ونوس وفاتح المدرس.

منذ بداياته وإلى آخر أفلامه "إغراء" الذي لم يكتمل، عمل أميرالاي على التأسيس للغة سينمائية تسجيلية، تقع في الحدود الفاصلة ما بين الوثائقي والروائي، فعدسته تظل وفية لمفردات الحياة، بينما يحمل تتابع لقطاته بعدًا دراميًا ذي لمسة إبداعية خالصة، تقنعنا بأن الواقع قد يكون أكثر إثارة وغرائبية من الخيال، وأن الفيلم التسجيلي يمكن أن يضاهي الأفلام الروائية بقيمته الفنية ومتعة التلقي، لغة شكلت منعطفًا على المستوى السينمائي السوري، وانتزعت الاعتراف بأهميتها على المستوى العالمي.

وعلى الرغم من إقامته الطويلة في باريس فإن أغلب موضوعات أفلامه تتعلق بالشأن العربي، فيلمه "مصائب قوم" مثلًا يدور حول الحرب الأهلية في لبنان، و"الحب الموؤود" يتحدث عن إشكالات المرأة العربية، و"العدو الحميم" عن المهاجرين العرب في فرنسا، و"هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يقولها المرء" يتناول الصراع العربي الإسرائيلي.

المفارقة المثيرة للأسف حقًا أن الجمهور السوري ظلَّ محرومًا من فرصة الإطلاع على نتاج هذا المخرج الهام بسبب منع عرض معظم أفلامه حتى في إطار المهرجانات السورية الدولية، وسوف نقف عند "الدجاج" لأنه يشكِّل نموذجًا واضحًا لثنائية الأهمية والمنع، فهذا الفيلم الذي يتمتع بقيمة فنية عالية، أنتجه التلفزيون العربي السوري عام 1977، وعُرض لمرة واحدة فقط بعد عام من إنتاجه، ثم حظي بعرض جماهيري ثانٍ في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق عام 2002، وإلى ذلك فهو يمثل حدًا فاصلًا في تجربة أميرالاي ما بين العمل لصالح القطاع العام في سوريا والعمل في المهجر.

الفيلم بالأبيض والأسود ومدته ساعة تقريبًا، وهو يرصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأتْ على إحدى القرى السورية المسماة "صدد"، وهي منطقة قديمة تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وجاء ذكرها في التوراة، أما "صدد" الحديثة فهي قرية جرداء شبه مهجورة، فبعد أن تخلَّص فلاحوها من الإقطاع بفضل قوانين الإصلاح الزراعي، جفتْ مياهها وبارت أراضيها، فتحوَّل من بقي من أهلها فيها إلى حياكة النسيج والبسط، ثم اعترى سكان القرية حمى إنشاء المداجن الحديثة وتربية الدجاج، وهي مرحلة انتهتْ بخسائر مادية فادحة بسبب عدم حماية القوانين لهؤلاء البؤساء من منافسة البيّض المستورد.

استخدم عمر تقنيات التحقيق الصحفي، وقارب موضوعه بأسلوب تهكمي جريء طاول التابو السياسي، فالفيلم يبدأ بمسرد تاريخي مقتضب عن هذه القرية قديمًا وحديثًا، ثم يتوقف قليلًا عند بيئتها والظروف المعيشية فيها، لينتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساس، أي مهنة تربية الدجاج التي زاولها سكان القرية، راصدًا الأسباب والريادة وفترات الانتعاش والانتكاس، وفي كل هذا كانت عدسة المخرج  تلتقط اللحظات المُركبة الأكثر تعقيدًا ودلالات التي تحمل في طياتها المفارقات المضحكة ما بين الأقوال والأفعال، وأحيانًا كانت تتدخل العدسة نفسها لإجراء بعض التحويرات الكاريكاتورية على المشهد.

رغم طبيعة الموضوع الجافة ومواقع التصوير الجدباء، ومعظمها جال في المداجن، غير أن لقطات الفيلم تتمتع بجماليات وحساسيات قلَّما نجدها في الفيلم الروائي، فالكادر مدروس بدقة وعناية من حيث التشكيل والإضاءة والقيمة الجمالية والتعبيرية والتتابع، إذ لا توجد لقطات مجانية أو مشاهد خارجة عن السياق الجمالي والذهني الذي بناه المخرج، فثمة توظيف درامي عال للقطات بحيث تتكامل وتتنامى باستمرار، لترسم مشهدية شديدة الحساسية مركبة الدوال ومرمَّزة، ذات بنية درامية تصاعدية، سارت لا لتفسر البنية النصية للفيلم، كما عودتنا الأفلام التسجيلية، بل لتتكامل وتتفاعل معها، بحيث تغدو الدلالة النهائية مختلفة عما نراه ونسمعه، وربما تكون انطلاقة عمر الأولى من عالم اللوحة والتشكيل، قد غذتْ لديه هذا الحس المرهف اتجاه مفردات اللغة البصرية وأشكال تفاعلها وصياغتها.

لم يُكثر المخرج من الكلام في الفيلم، بل ترك للصورة الدور الأكبر في التعبير، فالأحاديث المصوَّرة مع سكان القرية وأصحاب المداجن كانت قصيرة، وقد اقتطع من حين لآخر الجمل الأكثر سخرية وتعبيرًا عن الحالة، ووضعها على خلفية بيضاء في مقاطع مكتوبة، ولم يلجأ إلى الموسيقى كمؤثر صوتي، بل اعتمد توظيف إيقاعات الأصوات الطبيعة وأصوات الآلات والأدوات المستخدمة في تأمين لقمة العيش، كصوت النول مثلًا وطاحونة الهواء وصوت الدجاج، ومزجها ببنية الفيلم الصوتية، لتصبح عاملًا دراميًا شديد الأثر، قام بتهيئة المناخ العام للمَشاهد ورسم إيقاعاتها الداخلية، المَشاهد التي انتهت بمدجنة فارغة إلَّا من أصحاب المداجن المفلسين، وفجأة ينغلق عليهم باب حديد كبير وأسود، ليثير السؤال هل هم أغراض التدجين القادم؟ وبهذه  النهاية المأساوية الغير متوقعة، التي تختلف مع بنية الفيلم الكوميدية، حوَّل عمر اليومي والعادي والساذج إلى ملحمة بعيدة الدلالات والظلال.

بسريرة مطمئنة وقلب دافئ غادر عمر أميرالاي الحياة، غادرها وحيدًا مثل الفرسان في بيته بدمشق إثر جلطة دماغية أصابته صباح الخامس من شباط الجاري (2011)، وبرحيله فقدت سوريا مبدعًا آخر لم تفِه حقَ قدره.


تهامة الجندي

دمشق: ‏07‏/02‏/2011 

نُشر في صحيفة "الكفاح العربي"

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح