بوتين يخنق الحريات أم تخنقه؟

بقلم: بسام مقداد

منذ اليوم الأول لغزو أوكرانيا عممت اللجنة الروسية للإشراف على الإعلام  Roskomnadzor حظر استخدام كلمات حرب، هجوم أو اجتياح لوصف الغزو، واعتبار هذه التعابير بمثابة معلومات "كاذبة" عن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا. وتتوالى هذه الأيام من روسيا الأنباء عن الصحف والمواقع الإعلامية التي يتم حظرها أو إقفالها نهائيا بسب استخدام تعبير "حرب". وكان آخر هذه المواقع إذاعة "صدى موسكو" الممولة بشكل أساسي من العملاق "غاز بروم" المملوك من الدولة، حيث اتخذ مجلس إدارتها الخميس المنصرم قرارًا بإقفالها نهائيا بعد قرار حظرها في الأثير. وتبعها في اليوم عينه (3 من الشهر الجاري) موقع شبكة التلفزة المعارضة Dojd بإعلان المدير العام قي أثير الشبكة عن وقف البث، "حيث نحتاج وقتًا لنفهم كيف نعمل لاحقًا".

صحيفة Novaya المعارضة هي الأخرى، كما سواها من المواقع المهددة بالعقوبات المالية الكبيرة أو الحظر لمدة محددة، اجتمعت هيئة تحريرها مطلع الشهر الجاري للبحث في إمكانية الاستمرار بالصدور في ظل هذا التضييق الخانق على الإعلام، وقررت أن تطرح على قرائها مسألة الاستمرار بالصدور بشروط اللجنة المشرفة على الإعلام أو الإقفال. جاء رد القراء، في العدد الذي أصدرته ويتضمن فقط تعليقاتهم على السؤال، بأن طالبوها بالاستمرار وهم سيفهمون ما تكتب وما بين سطوره.

العديد من الصحافيين والكتاب السياسيين المعارضين الذين طلبت منهم "المدن" التعليق على هذه المسألة أو تلك المتعلقة بغزو أوكرانيا، إما اعتذروا عن الرد أو أنهم، وعلى غير عادتهم لاذوا بالصمت. وقال أحد العاملين في موقع معارض، اشترط ألا يذكر اسمه واسم الموقع الذي ينتمي إليه، بأن على "المدن" أن تتفهم وضع الإعلام المعارض وعمله في هذه الظروف الخانقة، حيث تتحين السلطة الفرصة إما لإدراج الموقع "المخالف" على قائمة العار "عملاء أجانب" أو إقفاله نهائياً. ويقول مواطنون روس في التواصل معهم بأن الوضع لا يُطاق، ويخشون التحدث على الهاتف بموضوع الحرب. ووصف آخرون الحالة بأنها تطبِق على صدور الجميع وتضيق أنفاسهم، ويشبهونها بالحالة التي سادت المجتمع الروسي في ثلاثينات القرن الماضي، ذروة الإرهاب الستاليني.

لكن إذا كانت بعض المواقع الإعلامية الروسية تقرر الإستمرار بالصدور، إما بالتحول إلى الإعلام الإلكتروني الذي يتيح طرقاً متعددة للصدور أو التحايل على شروط السلطة للإستمرار في الدفاع عن حرية التعبير، ومناهضة الحرب، قررت إدارة الخدمة الروسية في"الحرة" و "اوروبا الحرة" الرد على محاولات خنق حريتها بمقاضاة السلطة الروسية أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وكان موقع الخدمة الروسية في "الحرة" قد نشر أواسط الشهر المنصرم نصاً بعنوان ""الحرة، وأوروبا الحرة تواصلان السعي في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لمعاقبة روسيا". وكانت المحكمة قد منحت وضع الأولوية لدعوى الهيئة الأميركية المالكة للموقعين، والتي تشتكي من تدهور ظروف عمل الصحافيين في روسيا، وتعترض على 70 طلباً من هيئة الإشراف على الإعلام الروسية بحذف مواد متعلقة بالتحقيقات في قضية المؤسسة المناهضة للفساد للمعارض الروسي السجين ألكسي نافالني. وصرح  حينها رئيس الهيئة المالكة جيمي فلاي بالقول "في محاولته لتأكيد سيطرته الكاملة على المعلومات، يحاول الكرملين تجريم الصحافة ووصف الصحافيين الروس بالخونة. ندعو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى إصدار حكم بشأن ما إذا كان يمكن اعتبارها قانونية القوانين المتعلقة بـ "العملاء الأجانب" التي تنتهك الحقوق الأساسية للصحفيين ولجميع مواطني روسيا".

وكان موقع "الحرة"، الذي أدرج مع سواه في قائمة "عملاء أجانب" منذ العام 2017، يرفض أن يقدم لمواده المنشورة بالتعبير المذل الذي يفرضه القانون الروسي المعني، والذي تقول السلطات الروسية بأنها أقرته رداً على القانون الأميركي المماثل المفروض على مواقع الإعلام الروسية في الولايات المتحدة. وذكر الموقع أن مجموع الغرامات التي أقرتها المحاكم الروسية بحقه بلغ حينها حوالي مليار روبل (كان الدولار يساوي 70 روبلاً في حينه). 

موقع ovdinfo الروسي المدافع عن حقوق الإنسان نشر في 2 الشهر الجاري نصاً بعنوان "منذ بداية الحرب ( التي ترفض السلطة الروسية تسميتها حرباً) نشهد ضغطاُ هادفاً غير مسبوق على وسائل الإعلام المستقلة. منذ اليوم الأول طلب Roskomnadzor من وسائل الإعلام أن تنشر عن الحرب في أوكرانيا فقط ما تنشره المصادر الروسية الرسمية". ويعدد الموقع 11 موقعاً إعلامياً تلقى طلباً من السلطة بحذف مواد عن العمليات العسكرية "لعدم مطابقتها الحقيقة لقصف الجيش الروسي المدن الأوكرانية ومقتل سكان مدنيين". المواقع المذكورة ليست جميعها مستقلة معارضة، بل تضمنت صحيفة القوميين الروس وموقع نوفوستي الذي يتولى ترجمة الصحافة الأجنبية وموقع شبكة تلفزة رسمية إقليمية.

يقول الموقع أن وقف عمل المواقع الإعلامية بدأ في 17 الشهر المنصرم، ويشير إلى أن القوى الأمنية سحبت من الأسواق في 2 الشهر الجاري أعداد 5 صحف كتبت على صفحاتها الرئيسية "يجب وقف هذا الجنون". ويشير إلى أن كل هذا الذي يجري لا يمكن وصفه إلا بأنه أشد أنواع الرقابة التي يحظرها الدستور الروسي. والحرب هي ذلك الوضع الذي يجب أن يتلقى فيه الناس، أكثر من أي وضع آخر، المعلومات من مصادر مختلفة. وقراء المواقع المعنية الناطقين بالروسية، أوكرانيا بالنسبة لهم هي وطن، أسرة، أصدقاء، مكان عمل وذكريات، وجميع هؤلاء بحاجة إلى معلومات متنوعة المصادر. ومن المعروف كيف تقدم السلطة المعلومات، وكم هي الحقائق التي تسكت عنها وتشوهها حتى في زمن السلم، "فكيف في زمن الحرب". وكثيرون لا يثقون بالمصادر الرسمية للمعلومات، بل يلجأون إلى المصادر المستقلة. وقد حُرموا الآن عملياً من هذه الإمكانية، ووسائل التحايل المتاحة لا توفر كل الإمكانيات الضرورية لتخطي الحظر.

ويضيف الموقع بالقول، الدولة تقصف أراضي اوكرانيا، أناس يموتون، تتضرر مدن كثيرة، وسكان روسيا يحرمون من المعلومات. تتعرض للملاحقة أيضاً التصريحات المناهضة للحرب، ولم يسبق مثيل لحجم إعتقالات الناس الذين بخرجون إلى الشارع للتعبير عن مناهضتهم للحرب. ويختتم نصه بشعار "لا للحرب! لا للرقابة!".

حرب بوتين على أوكرانيا فتحت الباب على مصراعيه لحربه الرديفة على حرية الكلمة في روسيا، وهو يدرك أنه يراهن بمصيره في الحربين. فليس للتراجع والإنسحاب من مكان فيهما: إما أن ينتصر ويستمر في قلعته المعزولة عن العالم، لا يزعجه فيها صوت معارض، وإما يهزم في الحربين معاً، وهذا ما تلوح تباشيره في صمود أصحاب الكلمة الحرة في روسيا وفي صمود الشعب الأوكراني في الإسبوع الثاني لمواجهة آلة بوتين العسكرية الهائلة.

وفي سياق صمود أهل الكلمة الحرة الروس أتت إستقالة رئيسة تحرير الخدمة الروسية في عملاق بروباغندا الكرملين RT ماريا بارونوفا في 2 الجاري من موقعها. وقالت في اليوم الأخير لشبكة التلفزة المحظورة Dojd: "لقد أصبحنا في كوريا الشمالية". وبارونوفا هي إحدى نجمات إنتفاضة 2011 ــــــ 2012 ضد الكرملين، وزج بها في السجن حينها وتواصل الآن إنتفاضتها ضد بوتين وحربه على أوكرانيا، وثباتها مع الأوكرانيين على ما هي عليه يشي لمن ستكون الغلبة في معركة الحريات.

 

المصدر: المدن، السبت 05/03/2022 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"