من المخجل أن نترك الضحايا يواجهون مصيرهم وحيدين

رانيا العباسي وزوجها وأطفالها الستة (اعتقلوا في مارس 2013)

بين ثقافتين

"يستحق السوريون أن يعيشوا في سلام وأمن، وأن يتوفر لهم قدر من الأمل في المستقبل، كما يستحقون معرفة الحقيقة حول مصير أحبائهم" قال أنطونيو غوتيريش في جلسة خاصة بالمفقودين في سوريا عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأضاف: "إن الناس في كل جزء من البلد، ومن كل الفئات التي ينتمي إليها الفرقاء لديهم أحباء مفقودين، منهم أفراد أسر اختفوا قسرًا واختُطفوا وعُذبوا واحُتجزوا تعسفًا". وحث الأمين العام للأمم المتحدة على ضرورة تحرك كل الدول الأعضاء بتصميم وإلحاح لإيجاد حل لهذا الوضع المؤلم، ودعا الحكومة السورية وجميع أطراف النزاع إلى التعاون.

عُقدت الجلسة مساء 28 مارس بناء على دعوة من دولة ليختنشتاين للتصويت على مشروع قرار بخصوص إنشاء هيئة دولية مستقلة مهمتها البحث عن المختفين قسريًا في سوريا، وتقديم الدعم والمساندة لذويهم. وأوضح المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك "إنها ليست آلية محاسبة، إنما هيئة إنسانية بحتة استجابة لما سمعناه ولسنوات حول مصير المفقودين".

أيد المشروع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا وقطر والكويت وسويسرا واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة. ودعت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، السفيرة ليندا توماس غرينفيلد أطراف النزاع "إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين ظلمًا، وإعادة رفات الذين قضوا إلى عائلاتهم"، مؤكدة على أن هذا "واجب إنساني وأن الولايات المتحدة لن تتوقف أبدًا عن الضغط من أجل إطلاق سراح جميع المعتقلين تعسفيًا في سوريا".

بينما اعترض مندوبو كل من روسيا وكوبا وبيلاروسيا وإيران وفنزويلا والصين على فكرة إنشاء الهيئة معتبرين ذلك تدخلًا في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة ذات سيادة، وكأن الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب في السجون ليست جرائم ضد الإنسانية، يحاسب عليها القانون الدولي.

كيف يختفي المعتقلون؟

وثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" ما لا يقل عن 150 ألف شخص، بينهم 5199 طفلاً و10169 سيدة (أنثى بالغة)، لا يزالون قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري لدى كافة أطراف النزاع في سوريا منذ عام 2011 وحتى مارس 2023. وذكرت أن 86% من إجمالي عدد المعتقلين محتجزون لدى السجون التابعة لنظام الأسد، أي 135253 معتقلا،  وأن 85% من المعتقلين يتحولون إلى مختفين قسريًا.

المختفون قسريًا ليس لهم أثر في السجلات الرسمية، ولا أحد يعلم أين هم، وهل هم أحياء أم أموات بكل ما يعني ذلك من تبعات على ذويهم، ومن ضمن الحالات التي وثقتها مختلف المنظمات الدولية اختفاء: بطلة الشطرنج، الدكتورة رانيا العباسي وزوجها وأطفالها الستة (اعتقلوا في مارس 2013)، المحامي خليل معتوق (أكتوبر 2012)، المسرحي زكي كورديللو وابنه مهيار (آب 2012)، الصحفي الأمريكي أوستن تايس Austin Tice (أغسطس 2012)، الكاتب الفلسطيني علي الشهابي (ديسمبر 2012)، الشاعر ناصر بندق (فبراير 2014)، الدكتور عبد العزيز الخير (سبتمبر 2012)، والكاتب الكردي حسين عيسو (سبتمبر 2011).

النظام السوري ينكر أنه يخفي مئات الألوف من المعتقلين، ولا يسمح للمراقبين الدوليين في الدخول إلى مراكز الاحتجاز التي يديرها لتقصي الحقيقة، بالرغم من كل الشهادات الحية والصور المسربة وتقارير الهيئات الحقوقية واعترافات بعض مرتكبي الجرائم أمام المحاكم الأوروبية، وجميعها تثبت أن أجهزة النظام تمارس الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب حتى الموت كسياسة ممنهجة كل من طالب بالحرية والكرامة منذ بداية الاحتجاج السلمي عام 2011.

المداهمات الأمنية تتم بعيدًا عن معرفة القضاء ومن دون أذن اعتقال. ببساطة يجري اقتحام المنازل ليلًا، وسحب الناس من أسرتهم، أو اختطافهم نهارًا من على المفارز والحواجز الأمنية. وبمجرد أن يُعتقل السوري يُحرم من حقه في توكيل محامٍ أو الاتصال بذويه، يتحول إلى رقم، ويختفي أثره في مراكز الاحتجاز إلى أجل غير مسمى. وحتى في حال حظي بمحاكمة شكلية، فهذا لا يضمن له الخروج من المعتقل لدى انتهاء فترة الحكم، كحال المدونة المعتقلة طلّ الملوحي التي انهت محكوميتها منذ أواخر عام 2014 ولا تزال قيد الاعتقال.

مع هذه الإجراءات الخارجة عن القانون تختفي كل الأدلة التي تُثبت تورط النظام بعمليات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، لولا شهادات الناجين من المعتقل ممن استطاعوا مغادرة البلد، وجميعها تؤكد أن مراكز الاحتجاز أضحت مكانًا لا يضمن الحد الأدنى من شروط البقاء على قيد الحياة، وفيها تُمارس مختلف أشكال التعذيب والقتل والتحرش الجنسي والاغتصاب والإذلال والتجويع.

الاعتقالات لا تستهدف فقط المعارضين السياسيين أو المسلحين، بل تطال ذويهم من الأطفال والنساء وكبار السن ممن يُؤخذون كرهائن، وتطال أيضًا الناشطين السلميين، وهناك حملات عشوائية بحق مدنيين لا علاقة لهم بشيء، يجري احتجازهم من أجل عمليات تبادل الأسرى أو ابتزاز أهاليهم.

حوالي 15 ألف معتقلًا راح ضحية التعذيب في السجون السورية، معظمهم من الناشطين السلميين والعاملين في مجال الإعلام والإغاثة وحقوق الإنسان وفقًا لبيانات منظمة العفو الدولية، ومنذ أيار 2018 يجري تسريب أسماء المئات منهم إلى دوائر السجل المدني، وتقييد وفاتهم من دون تسليم جثامينهم إلى ذويهم أو إيضاح أسباب الوفاة. 

شهادة الناجين من سجون الأسد تشبه شهادة الناجين من محارق هتلر ومعسكرات ستالين. ومن المخجل السكوت عليها أو ترك الضحايا يواجهون مصيرهم وحيدين بحجة أن ما يحدث شأنا داخليا، وعلى حد تعبير ألبرت أينشتاين: "العالم مكان خطير، ليس بسبب من يرتكبون الشر، إنما بسبب أولئك الذين يكتفون بالمشاهدة ولا يحركون ساكنًا".

تهامة الجندي

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح

صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين