كريستينا فويرش.. تشي غيفارا مات في لبنان

لقطة من فيلم "تشي غيفارا مات في لبنان"
حين دخلّتُ "مترو المدينة" قبل عشر دقائق من بدء الفيلم التسجيلي "تشي غيفارا مات في لبنان" كانت الصالة تغصّ بالحضور، لم أتوقع هذا الإقبال، لكنه لم يفاجئني، الدخول مجاني، وعنوان العرض يوحي بأكثر من دلالة وسؤال. المبتدأ يحمل اسم أجمل ثوار القرن العشرين، وصورته لا تزال تسكن وجدان الكثيرين، وتكبر مع المد الثوري الذي يجتاح العالم العربي، والخبر يحيلنا إلى واحدة من أشهر أغنيات الشيخ إمام وفؤاد نجم، والجار والمجرور في الجملة يفتح قوس السؤال حول معنى الموت في بلد الحياة، وزمن الثورات العربية.

المشهد التمهيدي الطويل، لم يكن على صلة بالثورة أو الموت، كانت السيارة تقطع المسافات إلى جهة مجهولة بين الجبال والوديان، وفي داخلها كانت أسرة مكوّنة من زوجين وطفلة يغنّون، وبعد عدة مشاهد أخرى بدأ يتضح أن درب البداية تذهب باتجاه الذاكرة، في رحلة عسيرة أشبه بالعبور ما بين برزخ الموت والنجاة. حيث تحاول مخرجة الفيلم الألمانية كريستينا فويرش استعادة ماضي زوجها اللبناني زياد صعب، ومعه تعبر بنا إلى سنوات الحرب الأهلية في لبنان، وإلى مرحلة الحرب الباردة على المستوى العالمي، تعبر بنا في خطين متوازين، الأول يرسم سيرتها الشخصية كمناضلة سلّمية في حركة السلام، والآخر سيرة زوجها كمقاتل في صفوف الحزب الشيوعي، وهاتان السيرتان المتناقضتان تتقاطعان في لحظة هدنة مع الحياة بعد انتهاء الحربين.
كريستينا وُلدت في ألمانية الغربية، ونشطت من أجل السلام. احتفلت بسقوط جدار برلين عام 1989، وعاشت في المجتمع الألماني الشرقي، لتشهد تحولاته بعد دمج الدولتين المتناحرتين. جاءت لبنان أوائل الألفية الثالثة كمراسلة لإحدى القنوات التلفزيونية، التقت زياد، أعجبها سلوكه اللبق، طريقته في الرقص والتفكير، أُغرمت به وتزوجته، وأنجبت له كارلا، وهذه العلاقة بين الشريكين، سوف تكون الجسر الذي يصل بين ثقافتين وذهنيتين مختلفين، بدءا من أبسط أنماط العيش، وحتى أهم القيم والقناعات التي تضبط سلوك البشر، وتحدّد ميولهم وانتماءاتهم الفكرية، وسوف تنتقل عدسة التصوير بين الحاضنتين الجغرافيتين، وهي ترصد أوجه الاختلاف بين العالمين.
تختصر كريستينا كثيرا من سيرتها لصالح سيرة زوجها، وتكتفي بدور الشخصية المساعدة على إبراز شخصيته المحورية في الفيلم، هو الذي ينحدر من عائلة عُرفت بوطنيتها وشهدائها، وُلد وعاش طفولته وفتوته بين قلعة راشيا ومنطقة النبعة، حيث يقطن الفقراء والنازحون في بيوت بائسة ومتلاصقة، تنقصهم فرص التعليم والعمل، ويشعرون بالغبن والاستياء من دولة لا تلبي أبسط احتياجاتهم، ويحلمون بالتغيير. بيئة نموذجية لانتشار فكر اليسار في ستينات وسبعينات القرن العشرين، هي التي ستدفع بزياد لدخول الحزب  الشيوعي، وتلقي تدريباته العسكرية لدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثمة الانخراط في صفوف المقاومة، وحمل السلاح لقتال الجيش الإسرائيلي، والمواليين له وللإمبريالية العالمية، حتى قبل أن يبلغ سنته الثامنة عشرة.
معركته الأولى، وأكبر معاركه، كما يصفها زياد، كانت في عام 1976، من أجل الاستيلاء على قاعدة عسكرية تابعة لسعد حداد الموالي لإسرائيل، وقد خطّط لنجاحها بخدعة حربية، قامت على إرسال فرقة صغيرة، افتعلت معركة وهمية في مرجعيون، لجذب المقاتلين العملاء إليها، بينما استطاع هو وفرقته المكوّنة من خمسمئة مقاتل، السيطرة على القاعدة العسكرية، وعلى مدينة الخيام خلال ربع ساعة. ومنذ ذاك التاريخ سوف يقود معارك كثيرة، ينتصر، ويشتهر بشجاعته وأخلاقه الثورية، ما جعل رفاقه يلقّبونه بتشي غيفارا.
بعد الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، استلم زياد قيادة القوات المشتركة في منطقة النبطية، ودخل في أكثر من مواجهة مع العدو، منها المعركة مع "لواء غولاني" التي استمرت قرابة ثماني ساعات، ولم ينجح الإسرائيليون في الاستيلاء على قلعة أرنون، واضطروا إلى القصف الجوي، حتى تمكنوا من سحب جنودهم. وحين سألته كريستينا مسّتغربة، لماذا اختاروه قائدا على الرغم من صغر سنه وتجربته؟ قال، على الأرجح أن الأمر له علاقة بمظهره الخارجي، الطول والبنية القوية.
استمرت الحرب طويلا، أخذت شباب زياد، وقتلت الكثير من رفاقه، وانتهت بلوائح الموتى، وخسارة الجميع، وهو لا يتنصّل من تاريخه فيها، ولا يخجل منه، يعترف بخطأ تقديره، وأخطاء التجربة أمام عدسة التصوير،  كان يؤمن بقضية الفقراء، ويحلم بوطن يتساوى فيه الناس، لم يدخل المعركة عن عبث أو للبحث عن مكاسب شخصية، كان يناضل مثله مثل الكثيرين في سبيل قضية عادلة، لكن حمل السلاح والقتال لم يكونا الوسيلة المناسبة للدفاع عنها وتحقيق حلمه. يتحدث بمرارة، وهو لا يزال يذكر رفاقه القتلى، بالاسم واللقب، وتتساءل كريستينا: تذكرهم ببرود، من دون الإحساس بعقدة الذنب؟ ويجيبها: بعد سنتين من المعارك، اعتدتُ على فكرة فقد الرفاق، وصرتُ أقبّل موتهم، ولا أشعر بعقدة الذنب، لاني كنت دوما بينهم على جبهات القتال، وإن بقيت حيا فبحكم المصادفة لا غير.
تحاول المخرجة استكمال ملامح المناضل في جانبها الإنساني، فتذهب إلى منزل زوجته السابقة، تلتقيها وتسألها عنه، وتقول منى: "كان غائبا، وكنت انتظر قدومه باستمرار، وحين أنجبت ابنتنا تمارا، كانت ولادتي عسيرة، ولم يكن موجودا، امتلأت غرفتي بباقات الورود، ومن بينها باقة أبو عمار، لم أكترث بكل التهاني، كنت أريد زياد إلى جانبي، حين نشعر بالضعف نحتاج فقط من نحب". لكن زياد نفسه، سوف يكون أول من يحمل ابنته كارلا من كريستينا، ويلتقط لها الصور، لحظة خروجها إلى الحياة، بعد انتهاء حرب تموز/ يوليو عام 2006.
لا تقترب المخرجة من أرشيف الموت والدمار، كخلفية واقعية لصيرورة المعارك والسيرة الذاتية، بل تستعين بالصور الشخصية، بشهادة المكان، بمقطع من أغنية أو عرض مسرحي، تحاور بعضا من رفاق زياد، أو تلتقي عددا من أفراد عائلته، وتعتمد صيغة النقاشات البسيطة، والجدل حول الأمور الحياتية في سياقها التلقائي والعفوي، أكثر من اعتمادها على صيغة الأسئلة النقدية، والإجابات الفكرية المعقّدة والمدروسة، تنطلق دوما من اللحظة الراهنة، ولا تأبه لتسلسل التاريخ. وحتى تستدرج ذاكرة شريكها تأخذه إلى مكان الحدث، وهو يرفض أن تصوّر الرايات المختلفة المرفوعة على الأبنية، لا يرغب أن يرى سوى العلم اللبناني، يرفرف فوق كامل تراب وطنه، ويتمنى لو أن الحرب لم تقع، ويرجو أن لا تتكرر ثانية في لبنان، فهي لا تزال تعيش في كوابيسه بجثثها وروائح الدم والبارود.
يستمع زياد إلى أغنية "غيفارا مات"، ويرى أن النضال لا يزال حيا ومشروعا، نظرية التغيير بالسلاح هي التي سقطت وماتت. وعين كريستينا على الدوام تتابع التحولات التي اعترت محدّثها من مقاتل شرس، إلى مدافع عن السلام والحراك السلمي، يشارك في ثورة الأرز لخروج الجيش السوري من لبنان، ويشهد انتصار السلّمية،  وعند آثار جدار برلين، يقف الاثنان أمام صور الضحايا، الذين فكروا باجتياز الحاجز المنهار، هي تتذكر الخوف الذي انتابها من أجهزة الأمن والتنصّت، حين زارت برلين الشرقية، وهو كان يعتقد أن جميع الشرور تجتمع في الدول الرأسمالية، ويحلم بزيارة ضريح لينين، وتعبر بنا صور الذاكرة نحو جريمة اغتيال رفيق الحريري، وتشييع جثمان سمير القصير.

بيروت: تهامة الجندي
المستقبل، ملحق نوافذ 4 أيار 2014 

*"تشي غيفارا مات في لبنان" (80 دقيقة بالألوان)، إعداد وإخراج كريستينا فويرش صعب، إنتاج "تارتوغو فيلم"، عُرض في "ميترو المدينة" مساء الثاني والعشرين من نيسان 2014.  

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح