باتريك موديانو.. رحلة الانتصار على الألم

لعلّ فوز باتريك موديانو بجائزة نوبل، هو الشكل الأكثر رفّعة لإرادة الانتصار على الألم، والتغلب على الوحشة الداخلية، حين تقترن الإرادة بحس ابداعي عميق، وموهبة خالصة، قادرة أن تجعل من ذاكرة الاضطراب والاغتراب رصيدًا أدبيا، حافلًا بالصور والأسئلة، التي تحاكي جانبًا من عذابات الجميع، وتستدرج اهتمامهم.
كل صفحات الإنترنت تشير إلى أن الكاتب الفرنسي الشهير، وُلد وعاش سنوات طفولته وشبابه في ظروف قاسية على المستويين الشخصي والعام، وأن ذاكرة بداياته القلقة، كانت المادة الخام التي صاغت جميع نصوصه الأدبية الثمانية والعشرين، بما في ذلك روايته الجديدة "كي لا تضيع في الحي" التي تزامن صدورها بفوزه بأهم جائزة أدبية في العالم.
لكن اللافت في سيرة موديانو، انه على الرغم من شهرته كروائي، تُرجمت أعماله إلى ست وثلاثين لغة، وحصدت الكثير من الجوائز الهامة قبل نوبل، بما فيها جائزة الغونكور، على الرغم من ذلك فقد بقي ذاك الشخص الذي يُمجِّد عزلته، ويعشق التسكع ليلاً في حارات باريس الضيقة، وقلَّما يطلّ على وسائل الإعلام.
فتح موديانو رصيده الأدبي بـ"ساحة النجمة"، وهو في الثالثة والعشرين، بعد قمع الحركة الطلابية في باريس عام 1968، ومنذ ذاك الحين وهو يواظب على الكتابة، وكما ذكر بيتر انغلوند، فإن نصوصه ترسم صورًا حية لباريس المكّفهرة سياسيا وأمنيا، خلال الحرب العالمية الثانية، وخلال الستينات. وأنها تتمحور حول موضوع البحث عن المفقودين والهاربين والمختفين قسّريا والمحرومين من الاوراق الثبوتية. أو أولئك الباحثين عن هوياتهم المسروقة.
 انه يكتب من وحي عذاباته الشخصية، وتجربته الخاصة في البحث عن هوية هائمة بين مركّبات معقّدة، لا يد له في اختيارها،. فقد وُلد في (بولون- بيانكور) شمال فرنسا، غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، من أم بلجيكية، وأب ذي أصول يهودية إيطالية، يدعى البير موديانو، وقد تكون التباسات النشأة والانتماء على الذاكرة الطفولية، هي المنعطف الأول في سيرة البحث عن كينونة متعددة المشارب، في حاضنة قلقة تلمّلم أشلاءها، وتضمّد جراحها بعد الحرب.
وعلى ما يبدو كان والد موديانو مواليا للنازية وحكومة فيتشي، وبعد انتهاء الحرب صار ملاحقا بتهمة الاشتباه به في قضية اضطهاد اليهود، وبات محتّما عليه ان يعيش متواريا عن الأنظار، وبعيدا عن أسرته. والوالد المطارد والغائب، يعني طفولة مرّبكة وخائفة، لم تتحقق، وإحساس مبكّر وعميق باليتم، هو الذي دفع بباتريك أن يكرّس يتّمه، ويقطع علاقته بوهم الأبوة، وهو في السابعة عشرة من عمره، بعدها بأعوام علم بوفاة أبيه الغامضة، ولم يعلم أبدا أين دُفن.
ولم يكن الوالد، هو الكارثة الشخصية الوحيدة، التي واجهت موديانو، بل أيضا حضور امه الواهي في حياته، وموت شقيقه المبكر الذي يحب، وكان عليه أن يواجه مصيره بمفرده، ويجيب عن كل الأسئلة التي أنجبها زمن الخوف والفقد والغياب، حتى يستعيد ذاته وتوازنه، وابتكر أسلوبه الخاص، أن يطارد الألم، وينتصر على هشاشته وعذابه بالكتابة.
سيرة موديانو الحزينة، وعلاقته الحميمة بذاكرته وأوراقه، أحالتني من حيث لا أدري إلى سيرنا نحن السوريين، كأننا اليوم نحاول أن نقتفي تجربته، عن معرفة أو عن غير قصد. نرمّم ذاكرتنا التي سرقها الطغاة، نجمع صور وأسماء المفقودين في أقبية التعذيب وساحات القتل، نبحث عن هويتنا الضائعة تحت أنقاض المباني، وفي مطارح اللجوء. نغلق الباب على ذواتنا ونكتب، علّنا نُشفى من الخوف والوجع.

تهامة الجندي
صوفيا 2014

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عدنان الزراعي.. في انتظار وعد السراب

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟