من رواية «فيزياء الحزن» للبلغاري جورجي غوسبودينوف.. حتى نصل دهليز الألم ومعارض الصمت

قبل خمسة أعوام نشرت مجلة الـ "إيكونومست" تحقيقًا عن "جغرافيا السعادة"، وكانت بلغاريا بموجبه، واحدة من أكثر البلدان بؤسا في العالم، وبعد ما يقرب العام رد الكاتب البلغاري جورجي غوسبودينوف على ذلك التحقيق بتأليف روايته "فيزياء الحزن"، وفيها يحكي عن وطنه الحزين، وعن عذاباته الشخصية، وتوقه إلى أحلام، لن تتحقق أبدا، تارة لأسباب خاصة، وأخرى لظروف سياسية واقتصادية.

وجورجي غوسبودينوف واحد من أهم الأسماء الأدبية في المشهد البلغاري الراهن، وُلد في مدينة يانبول عام 1968، له العديد من الكتب في الشعر والقصة القصيرة والرواية، وبعضها تُرجم إلى ما يزيد على عشرة لغات أجنبية. وقد صدرت روايته "فيزياء الحزن" عن دار "جانيت 45" في صوفيا عام 2012، وفي يوم صدورها بيعت جميع نسخ طبعتها الاولى، وبهذا أصبحت الكتاب الاكثر مبيعًا لذاك العام، ونالت الكثير من الجوائز الادبية.

للرواية مذاق خاص، يثير شهية القارئ، على الرغم من امتدادها على 340 صفحة من القطع المتوسط، فهي لا تعتمد الحبكة النمطية، ولا أسلوب السرد التقليدي، بل تنتمي إلى تيار الوعي، وتقوم على تقنية التداعي والتقطيع المشهدي، حيث يضع الكاتب شظايا ذاكرته في جمل شعرية مقتضبة، وفقرات قصيرة، تؤلف مشهدا كثيفا، مترامي الأطراف، شديد الإيجاز، يحمل عنوانه المستقل، ينفصل عن سواه بموضوعه القائم بذاته، ويتصل مع باقي المشاهد بالمناخ الروائي العام، وبطريقة اللعب بالمفردات. 

كنت أقف حائرة، أنقل نظري ما بين رفوف مكتبة "هليكون" الضخمة، حين وقعت عيناي على عنوان "فيزياء الحزن"، مددت يدي بلهفة واحتضنته، اسمه قريب من القلب، عصي على التفسير، وصار الكتاب رفيقي، أحاول أن أقرأه بلغتي ومفرداتي، وربما لم أفشل في ترجمة الحزن، مثلما فعلت دوما مع الفرح.

"توطئة"

وُلدتُ أواخر آب 1913، مثل كائن بشري من جنس الذكور. لا أعرف المعنى الدقيق للكلمة، لكنهم انتظروني عدة أيام، حتى يتأكدوا إن كنت سأعيش، ومن ثمة سجّلوني، هكذا كانوا يتصرفون إزاء جميع المولودين الجدد. حصاد الصيف اُنجز، وكان ينبغي أن تُجمع الغلال من الحقل، حين ولدت البقرة، وازدادت الأعباء من حولها. بدأت الحرب الكبيرة، وأصابني ما لم يصبني بعد من أمراض الطفولة، الحصبة والخناق وغيرها..

وُلدتُ قبل ساعتين من شروق الشمس، مثل ذبابة النبيذ، وسأموت في المساء بعد الغروب.

وُلدتُ في الأول من كانون الثاني 1968، مثل كائن بشري من جنس الذكور، أتذكر ذاك العام بكل تفاصيله، منذ البداية وحتى النهاية، ولا أذكر شيئا عن العام الذي نحن فيه، حتى أنني لا أعرف ما هو رقمه.

أنا أُولد دائما، ولا أزال أذكر بداية العصر الجليدي، ونهاية الحرب الباردة، وكان منظر موت الديناصورات في كلا العصرين واحدا من أقسى ما شهدّتُ.

لم أولد بعد، أترقّب، لا أزال في الشهر ما تحت السابع، لا أعرف كيف يُحصى هذا الزمن السلبي في الرحم؟ كبير أنا، كبيرة أنا (إلى الآن لا يعرفون جنسي)، لكني على قدر الشحوم، أزنُ غراما ثقيلا ونصف. ذيلي يتضاءل بالتدريج، الحيوان في داخلي يغادرني، ملوّحا لي بما بقي من الذيل، أظن أني اصطُفيت، كي أكون كائنا بشريا. هنا المكان مظلم ومريح، وأنا موثق إلى شيء يتحرك.

وُلدتُ في السادس من أيلول 1944، مثل كائن بشري من جنس الذكور. زمن الحرب هو، وبعد أسبوع ذهب أبي إلى الجبهة، وجفّ حليب أمي. الخالة التي لا أطفال عندها، أرادت أن تأخذني وترعاني، أن تتباني، لكنهم لم يعطوني لها. بكيت ليال بأكملها من الجوع، بدل أن يرضعوني، جعلوني أمصّ كسرة خبز مبلّلة بالنبيذ.

اذكر، وُلدت كما لو أني دغل من الشوك، حجل، سحلية، غيمة في حزيران (الذكرى قصيرة) زعفران بنفسجي في الخريف، بالقرب من "هالينزي"، كرزة جريحة، مقطوفة من ثلج نيساني تأخر، كما لو أن الثلج استدرج شجرة الكرز إلى الخديعة.

أنا نكون

"التشخيص"

بعد ذلك بوقت بعيد، كنت قد أصبحتُ طالبا، وكدّتُ أن أجرؤ على الحديث أمام طبيب صديق عن طعنة التلقيح التي داهمتني في طفولتي. فكر الطبيب طويلا، وفي النهاية اقترح تشخيصا نادرا، وربما كان مبتكرا في تلك اللحظة، وكان على يبدو شيئا من هذا القبيل: مرض التقمّص العاطفي، أو متلازمة التعاطف الجسدي الاستحواذي.

كان المرض شديد الندور، عصيا على العلاج، غير أن أوقات ذرّوته بقيت في طفولتي. مع الزمن صار من السهل عليّ السيطرة على هجماته، التي فقدت أكثر مظاهرها حدّة، لكنها لم تختفِ بالكامل، وتماما كما في حالة الصّرع، قال الطبيب: لا نعرف أين يغيب المريض، حين يُصاب بالنوبة.

في حالتي لم يكن ثمة وقوع في النوبات، كان جسدي يبقى هادئا مع خدر خفيف، كأني شخص مستغرق بأفكاره، أو منغمس في الإصغاء إلى إحدى القصص. لا أرمش، البؤبؤان يقفان عن الحركة، الفم يظل نصف مفتوح، التنفس يتخذ نظاما تلقائيا. حينها أحلّ انا (جزء مني) في تاريخ آخر وجسد غريب.

قبلت الأمر مع مشاعر مختلطة من الخوف، والإحساس الغامض بالذنب، والمتعة. وكنت أبذلُ جهودا مضنية، كي اخفي على قدر ما أستطيع هذه المقّدرة، أو هذا المرض. فقط جدتي كانت دائما قادرة أن تكشفني: "يا الله، أخذته الحالة مرة أخرى". غالبا ما كان يحدث على الرغم من إرادتي، حتى لكأنه، هناك حيث يعاني الآخر من الألم، في ذاك المقطع، الجرح، منطقة القيّح، كان ينفتح الدهليز، الذي يبتلعني إلى الداخل. في الحكايات، سيما حكايات أولئك المقرّبين، كان ثمة بقعة عمياء، فجوة لحظية، منطقة ضعف، حزن غامض، توق إلى شيء ضائع، أو انه لم يحدث أبدا، يستقر فينا، في ظلام معارض المسّكوت عنه. في كل قصة يوجد ما يشبه هذه المعارض السرّية والدهاليز.

 حينها، ولأجل راحة باله، أرسلني الطبيب إلى الرنين الذرّي المغناطيسي، تلك الحبة البيضاء الضخمة، حيث يقطّعون دماغك إلى شرائح رقيقة، ويختلسون النظر على كل أسراره. استرخي، وفكر بأشياء جميلة، قالت الممرضة...

بعد ذلك بساعتين دخلت غرفة الأطباء، الذين كان من المفترض أن يحللوا صورتي، وما لبثت أن لاحظت عن بعد  امتعاضهم الخفي، لم تكن الصورة واضحة، ربما للأمر علاقة بالجهاز، كان قديما. وفي الواقع كانت هذه أول مرة تحدث لهم، اللوحة سوداء، لا يُرى منها شيء على الإطلاق، وهذا لم يكن مفاجئا لي. أنا أعلم، أنها لا تُرى، لأن الظلام في الداخل، لم يُضاء. جمجمتي مغارة، تغصّ بقرون من العتمة. طبعا، لم أقل لهم ذلك.    

يحدث أحيانا، أن أكون في نفس الوقت ديناصورا، سمكة، خفاشا، عصفورا، وحيد خلية يسبح في الهيولى الأولى، أو جنين من فصيلة الثديات، تارة أوجد في المغارة، وأخرى في الرحم، وهو في جوهره أمر واحد، أن أكون محصّنا ضد الزمان، المكان.


تقديم وترجمة عن البلغارية: تهامة الجندي 

صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ 30 آب 2015

 

اسم المؤلف بالبلغارية: Георги Господинов 
عنوان الكتاب: Физика на тъгата 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح

صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين