تمرد كل يوم.. انتصار المقاومة السلمية ليس من الخيال

"every day rebellion"

يصوغ الفيلم التسجيلي الإيراني "تمرد كل يوم" للأخوين آراش وأرمان رياحي وثيقة بصرية ساحرة حول نظرية الكفاح اللاعنفي، ويدعو المتضررين في العالم إلى التلاحم، واستثمار منابع ضعفهم للمطالبة بحقوقهم المهدورة، أسوة بأسلوب زعيم الهند غاندي في نضاله ضد الاحتلال البريطاني، وانطلاقًا من مقولته الشهيرة: "في البداية سوف يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يقاتلونك، ثم بعد ذلك تنتصر".

من قلب الظلام يبدأ الحدث بمشهد ليلي، وصوت خفيض أقرب إلى الهمس، ثم لقطات داخلية، ونقاشات وتبادل للرسائل الكترونية بين عدد محدود من الأشخاص، يوحي بأن ثمة أمر ما، يجري التحضير له، ومنذ تلك اللحظة ينقسم الفيلم إلى أربعة خطوط متداخلة، تلح  على فكرة أن الاحتجاجات السلمية، لا ينبغي لها أن تكون عملا اعتباطيًا، بل جهدًا مضنيًا يتطلب الكثير من التفكير الممنهج، وروح المبادرة الخلاقة.
تبزغ الشمس، وتبدأ الكاميرا رحلتها البانورامية بين حركات الاحتجاج السلمي، من "الثورة الخضراء" في إيران، إلى ثورات "الربيع العربي" في تونس ومصر واليمن وسوريا، فحركة "إنديغنادوس" في إسبانيا، و"احتلوا وول ستريت" في نيورك، ثم "فيمين" في أوكرانيا، وصولا إلى احتجاجات المملكة المتحدة وصربيا، ومعظم مشاهد الفيلم لن تكون بعدسة الهواة، بل بعدسة المخرج الاحترافية التي تجيد التقاط مناطق الجمال ومفارقات الحياة في مواقع الحدث.
لقطات تبدو في البداية أشبه بمهرجانات الفرح، وهي تتابع  المتظاهرين في الساحات المختلفة، يتقافزون ويغنون ويرقصون، يرسمون على الجدران ويحكون قصصهم، يطرقون على الأواني المعدنية ويحاولون التودد إلى الشرطة، معلنين رفضهم ومطالبهم بأساليب ساخرة، تنشر مناخًا عامًا من الفكاهة والمرح، وتدعو المتلقي للتساؤل من أين يستمد هؤلاء قوتهم، وما هي فرص نجاحهم في إحداث التغيير المطلوب؟
ولن تتأخر الكاميرا عن الإجابة عبر توالي مشاهد العنف في فض الاعتصامات، التي تبدو متشابهة في كل الميادين، تبدأ بالغازي المسيل للدموع، وتنتهي بالضرب والسحل والاعتقال، فاتباع الأساليب السلمية، لن يقي المتظاهرين من بطش أجهزة الأمن ومكافحة الشغب، حتى وإن كانوا في دول تدعي الديمقراطية، فما بالك بتلك التي يحكمها طغاة الأبد، وسوف نشهد الانطفاء الحزين لعدد من حركات الاحتجاج المدني، ولجوء حركات أخرى إلى حمل السلاح كحال الثورة في سوريا.
من المشاهد الخارجية وساحات التظاهر، تدخل عدسة التصوير إلى غرف الناشطين، وتطل على يومياتهم وتجاربهم الشخصية في التواصل والعمل. يحدثنا أحد الناشطين السوريين عن طريقته في كتابة شعارات الثورة على كرات صغيرة، وإلقائها في الأماكن العامة. وتحدثنا الناشطة الأوكرانية إينا شيفتشينكو، مؤسسة حركة "فيمن" عن أسلوبها في الكتابة على صدر المرأة العاري كوسيلة للاحتجاج، وعن تقنيات الصوت والجسد التي تتبعها، وعن تجربتها في المعتقل. نتابع مراسلاتها مع الناشطة علياء المهدي، واللقاء بينهما في استوكهولم، ونشهد وقفة الاحتجاج العارية التي جمعتهما أمام السفارة المصرية.
تتداخل المشاهد السابقة بمجموعة من الإرشادات والنصائح، يقدّمها للناشطين باحثون أخصائيون في شؤون "الكفاح اللاعنفي"، بينهم الخبير الصربي سيردجا بوبوفيتش، الذي يرى أن أهم المهارات التي تفضي إلى التغيير وسقوط الدكتاتوريات، بأقل المخاطر والخسائر البشرية، تبدأ من مهارة الحفاظ على وحدة الحركة السلمية، ثم مهارة التخطيط لها، فعندما نرى شبابًا يخرجون إلى الشوارع، ويحاولون التقرّب من الشرطة أو العساكر، فهذا يعني أن أحدهم كان يخطط مسبقًا للأمر، أما العامل الرئيسي في إحراز النصر، فهو مهارة الحفاظ على الانضباط اللاعنفي، فأي سلوك عنيف، مهما بلغت حدة القمع، قد يؤدي إلى تدمير الحركة السلمية، وانحسار التعاطف معها.
وتكتمل فكرة "تمرد كل يوم" "every day rebellion" ودوافع إنجازه، مع حديث مخرجه آراش رياحي في ختام العرض الذي قُدّم برعاية المعهد الألماني "غوته" في صوفيا، حيث قال: هربت أسرتي من إيران إلى النمسا لأسباب سياسية مطلع ثمانينيات القرن العشرين، ومن وقتها بقينا محرومين من العودة إلى بلدنا، وحين قامت "الثورة الخضراء" احتجاجًا على فوز أحمدي نجاد بولاية ثانية عام 2009، وبدأنا نشاهد أشرطة الفيديو التي تسجل وقائعها على صفحات الإنترنت، شعرنا أنا وأخي أرمان بأن علينا الإسهام بطريقة ما، ولم يكن بمقدورنا النزول إلى شوارع طهران، والاحتجاج مع الناس، لكننا كنا قادريّن على صناعة فيلم حول هذا الأسلوب الجديد من التمرد السلمي الذي لم نعهده من قبل.

للأسف قبل أن ننتهي من التحضير للفيلم، كان الاحتجاج السلمي قد تم إخماده بالعنف الشديد في إيران، لكنه ظهر مجددًا في بقاع أخرى من العالم، وقررنا تحويل "تمرد كل يوم" من مجرد عمل يحتفي بوقائع "الثورة الخضراء"؟ إلى فيلم يسجل مختلف أشكال المقاومة السلمية في العقد الأخير، ويوضح خصائصها، وأجه التقارب فيما بينما، سيما أنه تبين لنا بعد دراسة مؤشرات الواقع والبحوث العلمية، أن احتمال تحقيق الاحتجاج السلمي لأهدافه ليس من الأحلام، بل يتفوق بمقدار الثلثين على فرص نجاح الكفاح المسلح.

تهامة الجندي  
جيرون 24 كانون الثاني/ يناير 2017 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح