امرأة في الخمسين.. مصالحة الذات وبداية جديدة للحياة


كاتب خمسيني، جذاب الطلّة، ومشهور بتحيّزه لقضايا المرأة والأدب النسائي. تتعرف به في حفل تسليمه جائزة الإبداع والنقد الأدبي، وتدعوه إلى مقهى بحري في بيروت، لتجري معه حوارًا صحفيًا للمجلة التي تعمل فيها، وفي الطريق تمسك بذراعه حتى لا تقع، وهي تمشي على المنحدر الحاد بكعبها العالي، لكنه يصدمها بحديثه عن عشيقته التي تهدّل وجهها الجميل مع تقدم العمر، وعن أسلوبه المميز في معرفة عمر النساء من رطوبة مهبلهنّ. تحتقره في أعماقها، وتشتهيه بجسدها الرشيق، الذي لا يزال يتوق إلى الحب، على الرغم من بلوغها سن اليأس، تقاوم سحره ليلة، وتسقط في فراشه في الليلة الثانية، بعدها يسافر من دون أن يقول لها كلمة وداع، كأنها لم تكن.

وبهذا المشهد الاستهلالي تكون هيفاء بيطار، قد فتحت روايتها الجديدة "امرأة في الخمسين"، على شخصين ينتميان إلى عالم الكتابة، وعلى فضيحة أخلاقية تكشف زيف المثقف العربي وادعاءاته الفارغة، سوف تفجّر لدى الصحافية المغدورة إحساسا عميقا بالإهانة والغضب، يجعلها تستحضر ماضيها، وكل تجاربها السابقة، وتجارب صديقاتها مع الرجال، وتعقد ما يشبه محكمة متخيّلة لإدانة المجتمع الذكوري.
وفي المتن الروائي يتماهى صوت الأدبية بصوت الراوية، تلك المرأة المثقفة، العاملة في صحيفة رسمية، التي تزوجت بالإكراه خوفا من العنوسة، وعانت من سادية الرجل في فراشها الزوجي، ومن بعد طلاقها تحملت ضغط الكبت الجنسي، والحصار الاجتماعي، ومسؤولية ابنها الوحيد. وهي تفصح عن مشاعرها بضمير المتكلم، وتعتمد على تداعياتها ومنولوجها الداخلي لسرد قصتها، التي تبدأ من إعادة قراءة رسائلها إلى عشاقها السابقين، حيث يدخل الزمن في لعبة التأخير والتقديم لاستكمال تفاصيل الحبكة، وعند هذه الحدود قد يُخيل للقارئ، أن الموضوع برمته، لا يتعدى كونه محاولة انتقامية للنيل من الغطرسة الذكورية، لولا جرأة البوح، وميل الراوية إلى إدانة صمتها، وتواطئها الضمني مع منظومة التمييز والعنف ضد المرأة، قبل إدانتها للرجل.
هي التي كانت تفضل المساكنة والعواطف التي لا تثقلها الوعود: "إذا كنا نحن كجنس بشري عابرين في هذه الحياة، فلم لا يكون الحب عابرًا"، ومع ذلك تزوجت من دون عاطفة، وهي في التاسعة والعشرين، كي لا يفوتها القطار، وكان زوجها في الخامسة والثلاثين، يحمل شهادة في الاقتصاد، وحين ولجها من الخلف، أحست بألم يبتلع كيانها، سوف يترك ندبة في روحها مدى الحياة، ومع ذلك صمتت، وقبلت مثل كل النساء، حتى أنجبت بكرها، وطلبت الطلاق.
تقرأ رسائلها لعشاقها من بعد مرور سنوات طويلة على طلاقها، وتعترف أن عواطفها كانت مغشوشة، وأن حبها الحقيقي لم يكن لهم، كانوا مجرد صلة الوصل ما بين تدفق مشاعرها وتدفق اللغة، التي تدخلها في نشوة عارمة من التحليق والكتابة: "ياه، كم تختلف أنت عن الرجال الذين عرفتهم؟ ما إن قرأتُ هذه العبارة، حتى رميت الأوراق جانبًا، وانفجرت بالضحك، تذكرت أنني قلتها لكل عشاقي"، "أظنني كنت إحدى ضحايا جيل تقديس الحرية الجنسية وتكريسها كعلامة على الصحة النفسية والجسدية".
قبل مرحلة العشاق كانت الصحافية تعاني من قطيعة المجتمع لها، لكن صداقتها بفابيولا، أحدثت انعطافة في حياتها ومن ثمة في مسار الرواية. كلتاهما أم مطلّقة، مع الفارق ان فابيولا الساحرة، تنحدر من أسرة ثرية، وتدير محلا فخما للأزياء النسائية، تزوجت الشاب الذي تحب، وطلقها لأنها لم تكتب ثروتها باسمه: "كان واثقا أن فابيولا المتيّمة به، والمدمنة على ممارسة الحب معه، والتي تنتظر طفلها الأول ستلبي طلبه، لكن عاصفة من الجنون والغضب الأعمى، هبت في أعماقها كإعصار، وأطاحت به خارج حياتها"، ومن بعدها لم تعد تأبه لكلام الناس، بل صارت تتلذذ بسوء السمعة: "لم تتنقل فقط من عشيق لعشيق، بل صار يحلو لها، أن تجمع عدة عشاق في الوقت نفسه، لكن هذا لم يمنعها من أن تكون أمًا عظيمة، تعبد ابنها، وتغمره بحبها وحنانها، وتهديه وقتها".
مع انقطاع طمثها تحررت فبيولا من ضغط الغريزة والأوهام، وشعرت أنها دخلت سن النضج، وعمر المصالحة مع الذات، وأن عليها تدشين بداية جديدة لحياتها. فكرت بتشكيل جمعية من النساء الخمسينيات، وكانت بحكم عملها بتجارة الألبسة النسائية، على علاقة متينة بسيدات من مختلف البيئات الاجتماعية والمذاهب الدينية، وفي صالون بيتها الأنيق، الفسيح، اجتمعت ست عشرة امرأة للمرة الأولى، وكن سبع مطلقات، وسبع مُتزوجات، وأرملتان، عملّن معا على إطلاق "جمعية الخمسين"، وبدأّت كل واحدة منهنّ، تبوح كيف تواطأت مع المجتمع الذكوري لوأد ذاتها.
صارت الجمعية تعقد اجتماعاتها كل خميس، وبدت الاجتماعات بمثابة فضاء المحكمة الافتراضي، وكانت العضّوات، هن  المترافعات والشاهدات على جرائم الاستبداد بهن، وكان جسدهنّ المنتهك، هو مسرح الجريمة، ولم يكنّ نساء جاهلات أو عاطلات عن العمل، كنّ من النساء المتفوّقات علميًا ومهنيًا، بينهن فتون طببية التخدير الأولى، وابتهال النجمة المشهورة، ونجاة كاتبة السيناريو، وريم أم الطفل المعوّق، وتجاربهن القاسية، فتحت الباب على أزمات اجتماعية حقيقة، تتصل بالقمع السياسي والتحرش الجنسي وقانون الأحوال الشخصية وقضايا التبني.
مع انعقاد كل جلسة، تعددت الأصوات النسائية، ولجأت الكاتبة إلى ما يشبه صيغة الشهادة الحية، في محاولة منها لتعرية الواقع، وتصوير نصف قرن من حياة السّوريات في ظل حكم "البعث"، قبل أن تندلع الثورة، وتدخل حيّز المتن الروائي مع قصة نجاة. وربما لم تعبأ هيفاء في بعض الأحيان بترسيم المكان، ولا بأدبية النص، بل كان همها الأول سقوط الأقنعة، ومن أجله استخدمت لغة صريحة وواضحة، تذهب إلى غايتها من دون مواربة، وتصف العنف بمسمياته العلمية، لانها تؤمن "أننا يجب أن نكشف الجرح، إذا أردناه أن يُشفى تماما".
كانت قصة ابتهال، هي الأقوى من بين قصص بقية شخصيات الرواية، لأنها رسمت أبعاد العلاقة الوثقى ما بين الاستبداد السياسي والسقوط الأخلاقي. ابتهال ابنة المناضل اليساري، الذي قضى تحت التعذيب، بتهمة المساس بأمن سوريا القومي، أصبحت إحدى أجمل وأشهر الممثلات، وأدت أدوارًا مميزة على الشاشة، لأنها قبلت قبل أن تحصل على أدوار البطولة، أن تضاجع المخرج والمنتج، وان تزج نفسها في منافسات ونمائم قذرة مع زميلاتها وزملائها الممثلين، وفي اللحظات التي كانت الصحافة تلاحقها، كانت تشعر بزيف نجوميتها، وتسمع صوت النحيب في أعماقها المظلمة، وكان إحساسها بالغثيان يمنعها من النوم، ويضطرها إلى تعاطي المهدئات، قبل أن تنسحب من الساحة الفنية، وتكتشف أنها رضيت بكل ذاك الذل، لأنها لم تشعر أبدا بكرامتها في بلدها.
تقول ابتهال: "العين لا تُقاوم المخّرز، هذه هي حكمة العيش في سوريا، في بلد تحكم قبضة الأمن فيه على رقابنا، كما تمسك صوصًا من عنقه وتشلّه، حكمة جعلتني أسلم نفسي للحياة، كأنني أسلمها للعدم... كنتُ تربة مثاليه للاغتصاب، لأنني مهزومة سلفا، ولأنني وضعتُ نفسي في خانة المهزومين والمُنكسرين، وضعت نفسي في خانة الصامتين الخائفين، الذين قبلوا أن يتحكّم بحياتهم لصوص سفلة، وأصحاب مناصب حساسة، نتظاهر بأننا نحبهم ونقدرهم، ونقدّم لهم ولاء الطاعة الزائفة، بينما أعماقنا تضج بالكراهية والاحتقار لهم.. صرت أقرف من نفسي، وأكرهها وأحتقرها، وأسخر من نجوميتي، لكنني طوال الوقت، لم أكن أشعر أن رجلا قد اغتصبني، بل نظامًا".

تهامة الجندي
صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ 5 نيسان 2015 
"امرأة في الخمسين"، رواية في 176 صفحة قطع متوسط. المؤلفة: هيفاء بيطار، الناشر: دار الساقي، بيروت 2014.

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق