الحدود السياسية وأخلاقيات الهجرة


ما علاقة الحدود السياسية بمكونات الهويات الذاتية: القومية والثقافية والدينية والعرقية؟ وهل يجري ترسيم الحدود وفق معايير أخلاقية أم أيديولوجية؟ وما هي الاحتمالات التبادلية بين خصوصيات المهاجرين والهوية الذاتية لبلد المهجر؟ أسئلة يطرحها الأوروبيون في سياق الانقسام والجدل بين الراغبين بإغلاق حدود بلادهم أمام موجات الهجرة وتدفق اللاجئين، وأولئك المؤيدين لفتحها دون قيود. وهي الأسئلة التي كانت محور سلسلة من المحاضرات، نظمها المركز الفرنسي في بلغاريا بالتعاون مع جامعة صوفيا "القديس كلمنت أوهريدسكي"، ما بين أواخر شباط وأواسط الشهر الحالي، بحضور نخبة من الخبراء الفرنسيين والبلغار، هم: جيرار شاليان، أوغنيان مينتشيف، جان كاسيان بيليه، وفرانسوا ايران.

من حيث المبدأ عُرفت ظاهرة الهجرة الفردية أو الجماعية منذ فجر التاريخ، فمع سعي البشر نحو حياة أفضل قد يغادرون أوطانهم طوعًا أو قسرًا، تحت ضغط العديد من الظروف كسوء الأوضاع المعيشية والكوارث الطبيعية، أو الاضطهاد والتمييز والحروب، وقد تكون الهجرة قانونية بموجب وثائق وأذونات رسمية، أو قد تتم بطرق غير شرعية من خلال التسلل عبر الحدود الدولية، وهو ما يعرض المهاجرين إلى خطر الوقوع في شبكات الإتجار بالبشر، أو الاعتقال والترحيل، وربما الموت في بعض الأحيان.
تشير معطيات منظمة الهجرة الدولية أن عدد المُهاجرين من دولهم الأصلية بلغ 247 مليون نسمة عام 2013. وأن أوروبا استقبلت العدد الأكبر منهم، فعلى هذه القارة الصغيرة نسبيًا التي لا تتجاوز مساحتها 10.180.000 كم²، يسكن حوالي 800 مليون نسمة، بينهم قرابة 80 مليون مهاجر من مختلف أرجاء العالم، ذلك أن دول غرب أوروبا شجعت قدوم العمالة الأجنبية إليها بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء اقتصادها، وشجعت العمالة المهاجرة من أوروبا الشرقية مع انهيار المعسكر الاشتراكي أواخر ثمانينات القرن العشرين، وفي عام 2015 بلغ عدد طالبيً اللجوء إلى أوربا 1.26 مليون شخصًا.
بغض النظر عن مدى تفعيل الآليات القانونية وتطبيقها لضمان حماية المهاجرين واللاجئين واحترام حقوقهم، فإن موجات الهجرة وتدفق اللاجئين غالبًا ما تتسبب بالعديد من الإشكالات، أبرزها ما يتعلق بالإسكان ومشاريع الإدماج وتأمين فرص العمل، فبعضِ الوافدين يجدون صعوبة في التأقلم مع الحياة الجديدة لاختلاف بيئتهم الثقافية والاجتماعية، وبعضهم يعانون من التهميش والعزلة، والكثير منهم لا يجدون سوى فرص عمل بشروط صعبة وأجور منخفضة، وفي المقابل تعاني الدول المضيفة من زيادة مُعدلات البطالة والفقر لدى السكان الأصليين، وتدني مُعدلاتِ الدخل العام، سيما تلك الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة، التي لا تتمتع بالقدر الكافي من الاستقرار الاقتصادي والسياسي (1).
بحسب محاضرة الباحثان، الفرنسي جان شاليان والبلغاري أوغنيان منتشيف، فإن أزمة اللجوء والهجرة التي تواجه العالم في الآونة الأخيرة، تعيد إلى الأذهان السؤال القديم حول الترسيمات الحدودية ومفهوم الهوية الذاتية (القومية والثقافية والعرقية والدينية) في علاقتها مع المجتمعات الأخرى، خصوصا في القارة الأوروبية التي شهدت الكثير من التغيرات الحدودية، أدت إلى ظهور دول واختفاء أخرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار جدار برلين والمعسكر الاشتراكي، ما يعني أن الحدود بين الدول ليست معطى ثابتًا، بل تخضع لخلفية أيديولوجية، وهي مجرد هياكل رمزية متفاوتة تبعًا لوجهات النظر التي فرضتها، وإذا كانت الحدود متحركة ومتناقضة بهذا القدر، فهي تاريخيًا عرضة للصراع نتيجة لتداخل مكونات ​​الهويات الذاتية في تجربة التواصل، الثقافية واللغوية والاجتماعية والتاريخية، حيث يظهر التمييز من مسافتيّ الاحتواء أو الإقصاء.
الحدود السياسية هي قضية العلاقة بين الذاتية والغيرية، وبهذا المعنى فهي تهيئ المجال للتفكير في التشكيلات الممكنة لهذه الثنائية، أي احتمالات التداخل والاندماج، أو التنافر المتبادل بين الهويات المختلفة داخل البلد الواحد وخارجه، بمعنى أن العلاقة التبادلية يمكن أن تشمل تعبيرات الاستلاب أو التهميش، كما أنها يمكن أن تشجع الانتقال السريع نحو الانسجام والاندماج بتكامل الثقافات واللغات الوافدة مع منظومة القيم والمعايير السائدة، ويلعب الفن والإعلام دورًا مركزيًا على هذا الصعيد.
هل الحدود السياسية تعكس ما يبرر وجودها من الناحية الأخلاقية؟  سؤال ينبغي الإجابة عنه قبل أي سؤال آخر، بحسب محاضرة الفيلسوف الفرنسي جان كاسيان بيليه، ذلك من أجل استعادة السجال الهادئ حول "أخلاقيات الهجرة" وتقديم تقييم نقدي لمختلف الحلول المقترحة في الاستجابة لأزمات الهجرة واللجوء التي تحمل في طياتها الكثير من المآسي الإنسانية، وتخلف الكثير من التوتر بين أنصار وضع ضوابط صارمة على المهاجرين، أو دعم وجهة النظر المؤيدة لأن يكونوا موضع ترحيب.
أوروبا قارة الهجرة، ومن العبث وضع سقف لأعداد المهاجرين إليها، يرى البروفسور فرانسوا إيران، غير أن موقف الدول الأوروبية حيال أزمة اللجوء الأخيرة، شطر المشهد الأوروبي إلى صورتيّن متناقضيّن، وكانت فرنسا أكثر الدول تعبيرًا عن هذا التناقض، فقد خذلت الكثير من طالبيّ اللجوء الذين يطرقون بابها منذ عام 2015، مع أنها منذ خمسة عشر عامًا لا تزال تمنح حوالي 200 ألف بطاقة إقامة سنويًا للمهاجرين من خارج أوروبا، توافقًا مع شرعة حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في لم شمل الأسرة.
أما ألمانيا فهي تعبئ جميع أعمالها لحماية طالبي اللجوء مؤقتًا من الحروب والنزاعات المسلحة، وتغلق أبوابها أمام الحالات الأخرى، ومقارنة بعدد سكان الاتحاد الأوروبي فإن جميع الدول المنضوية في إطاره، تتبنى كل عام عددًا أكبر من المهاجرين مما تتبناه الولايات الأمريكية المتحدة، لكنها منقسمة على نفسها ومترددة حيال ما يتعلق باللاجئين من الشرق الأوسط.
يقول إيران: "نحن بحاجة إلى فصل واضح بين الهجرة العادية وموجات الهجرة الاستثنائية، الاضطرارية، التي تشمل أعدادًا كبيرة من المهاجرين، وتحدث غالبًا إبان النزاعات المسلحة، وهي لسوء الحظ تتكرر تقريبًا كل خمسة عشر عامًا، ومن أمثلتها الحرب في يوغوسلافيا السابقة، وقد تبنت ألمانيا المهاجرين الاستثنائيين أثناء حروب البلقان، وكذلك اللاجئين من العراق وسوريا أكثر بعشر مرات مما فعلت فرنسا التي تفضل قبول المهاجرين العاديين، وتعاني من مشكلة تمركزهم المفرط في أحياء معينة، ومن ميل الوافدين الجدد للبقاء في تلك الأحياء، ما يستدعي مراجعة سياستها فيما يسمى بـ"الإسكان الاجتماعي".
ويضيف البروفسور إيران أن دول الكتلة الشيوعية السابقة ليست معتادة على وجود المهاجرين غير الأوروبيين، وهذا الوضع يجب تعديله لتفادي تبعات النقص المتزايد في التركيبة السكانية لهذه البلدان، نتيجة انخفاض معدلات الولادة فيها، وارتفاع معدلات الهجرة إلى خارجها، فعلى سبيل المثال ستفقد بلغاريا نصف سكانها في السنوات الخمسين المقبلة، بما في ذلك اليد العاملة، إن لم تعوّض ذلك النقص بقبول المهاجرين واللاجئين، ولعل هذا الطرح ليس هو الحل الوحيد لتجاوز المشكلة، لكنه بالتأكيد جزء من الحل.
في هذه الدراما المتشابكة، المتعددة الأمداء والطبقات، يتصدر المهجرون واللاجئون السوريون المشهد بمآسيهم التي صنعها الاستبداد وتجار الحروب، لاسيما حين تفكر الدول المضيفة بإعادتهم إلى سوريا مع بقاء نظام الأسد.

تهامة الجندي
شبكة جيرون الإعلامية 21 أيار 2018 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"