مفهوم الوطن والوطنية


"ما حدث في سوريا منذ سبع سنوات أشبه بزلزال ليس على مستوى الواقع السياسي والعسكري وحسب، بل على مستوى الرؤى والتصورات التي كنا نعتبرها بمثابة البديهيات، وهو ما يفترض إعادة النظر في مجمل مفاهيمنا". قال الباحث حازم نهار في بداية محاضرته "مفهوم الوطن والوطنية في ضوء الصراع في سوريا وعليها" التي استضافتها سلسلة ندوات "مشروع وطن" على الواتس آب.

اعتبر مدير مركز "حرمون" أن الوطن في ثقافتنا ومفاهيمنا السياسية محدد بجملة من التصورات تنتقص من قيمته كتعبير عن الكل الاجتماعي، لعل أهمها حين يُشار إليه بالحمى، ما يعني أن الوطن هو الجغرافيا الحاوية على الكلأ والنار والماء وحسب، وعلى ذلك ينقسم العالم إلى فسطاطيّن، أهل الحمى والغزاة، وبناء عليه يتأسس مفهوم سلبي للوطنية، تصبح معه معادية للآخر، الغازي أو المستعمر الذي يحاول انتهاك الحمى.
وأضاف أنه كان من الطبيعي خلال مرحلة الاستعمار أن يتطابق هذا المفهوم للوطنية مع برامج معظم حركات التحرر التي اقتصرت طرد المستعمر وتحقيق الاستقلال، لكن حتى اليوم يجري تحديد مفهوم الوطنية بشكل سلبي، أي بدلالة الخارج أو الآخر، ولم يتحدد على أساس الهوية الذاتية، وانطلاقًا من متطلباتها وحاجاتها. هذا لا يعني أن الجغرافيا غير هامة، إنها إطار الوطن، لكن مفهوم الوطن أوسع من الجغرافيا، هو ماهية الوطن ومحتواه ومضمونه، أما الحدود الجغرافية فهي نتيجته.
المحدد الآخر لمفهوم الوطن في ثقافتنا السياسية الذي تطرق إليه المحاضر هو الأيديولوجيا، مشيرًا أن لا أحد يتخيل الوطن والوطنية بمعزل عن انتمائه الأيديولوجي ومعتقده، وكل أيديولوجيا تضع تصورًا للوطن والوطنية، يصبح معه غير المنتمين لهذا التصور غير وطنيين بالضرورة، لا فرق هنا بين التيارات العلمانية والإسلامية، فكل من هو غير مسلم، على سبيل المثال، مشكوك بوطنيته في فكر معظم التيارات الإسلامية، وكل من يحاول الاستفادة من فكر الغرب بعيدًا عن التيارات الشيوعية هو برجوازي، وكل من ينتمي إلى الأقليات كالأكراد هو عميل للخارج، بشكل أو آخر، في الفكر القومي العربي التقليدي، فهذه الأقليات ما هي إلا إسفين مغروز في مجتمعاتنا، سيستخدمها الخارج في النفاذ إلينا بالوقت المناسب.
أما السيادة الوطنية في قاموس الاستبداد فتعني قانون الطوارئ، واحتكار السلطة واجتثاث المعارضين وتخويف البشر وامتهان كراماتهم، وغيرها من الممارسات التي لم تنجح اغلب الأحيان في الحفاظ على الوطن والوطنية. يقدم النظام الاستبدادي مفهومًا سكونيًا ثابتًا للوطن والوطنية، ويضع معاييره الخاصة التي تتناسب مع مصالحه واستمرار استبداده، إذ يجعل من الوطنية معادلة للولاء له، بحيث تصبح كل حركة معارضة لوجوده واستمراره خائنة، على عكس النظام الديمقراطي الذي يسمح في كل لحظة بإعادة اكتشاف الهوية الوطنية على اعتبارها هوية متجددة، وكائنًا حيًا ينمو ويتطور ويتفاعل مع الجديد والمتغيرات.
في معرض حديثه لاحظ نهار أن تجربة السنوات الماضية كشفت أن لا وطن من دون مواطن، ولا تحرير أو استقلال من دون حرية المواطن، فالمفهوم الجديد للسيادة الوطنية يتحدد بمدى احترام حقوق الإنسان واستقلال القضاء، كي يشعر المواطن أن الدولة دولته والوطن وطنه، بمعنى أن مفهوم الوطن والوطنية يًبنى على الأساس من نقطتيّن مركزيتيّن: الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية، ومن دون ذلك يفقد المفهوميّن المعنى، ويصبحا قابليّن للمتاجرة.
وفي تحديده لمفهوم "الدولة الوطنية"، نوه الباحث بداية إلى أن الوطنية ليست نقيض الخيانة، كما هو سائد، الوطنية هنا معادل للعمومية، فالدولة الوطنية هي الدولة العمومية، المحايدة، الوظيفية، بمعنى الدولة التي تقوم بوظائفها كجهاز محايد اتجاه جميع افراد الشعب السوري بغض النظر عن العرق والجنس، أو الدين والطائفة. دائمًا كنا نبحث عن دولة ذات صفة عرقية أو دينية، في حين ان الدولة لا تقبل مثل هذه الصفات لأنها تخفض من قيمتها كتعبير عن الكل الاجتماعي، فعندما نقول "الدولة العربية السورية" فإننا نطرد سلفًا كل الأقليات غير العرب. فكرة الدولة الوطنية لا تلتقي مع فكرة الأقلية والأكثرية أو التطييف الديني والمذهبي، وأي صفة تنقص من قيمة الدولة العمومية، سوف تحوّل الدولة إلى عصابة، أو في أحسن الأحوال دولة خاصة بفئة محددة. ما يمكن ان يجمع الأفراد هو الدولة العمومية التي تتلاقى مع فكرة المواطنة المتساوية، تساوي الجميع في الحقوق والواجبات. هكذا تُبنى الدول الحديثة، ماعدا ذلك تُبنى المجتمعات التناحرية التي تؤسس للمحاصصات والصراعات الدائمة.
ما هي سبل الوصول إلى "الدولة الوطنية"؟ سأل أحد الحضور، ورأى المحاضر أن السبيل يمر عبر خطوتيّن، الأولى أن تصبح مفاهيم "الدولة الوطنية" في صلب المشروع الوطني، "حقوق المواطنة" و"المواطنة المتساوية" يجب أن تصبح أفكارا جامعة على أساسها يتم إعادة بناء وطننا ودولتنا، وإعادة الشعب السوري إلى ساحة الفعل، أما الخطوة الثانية فهي تنظيم أنفسنا، وهو ما لم يحظَ بالاهتمام الكافي خلال السنوات الماضية، فكل تنظيماتنا المدنية والسياسية هشة قامت على أساس اعتباطي لا على أسس علمية. مشكلة سوريا ان النخب كانت ممزقة خلال نصف القرن الماضي بسبب الاستبداد، لا توجد لدينا "نخبة" بمفهوم علم الاجتماع، لدينا أفراد ولم نبنِ تلك النخبة السياسية، المثقفة، المتماسكة، الجديرة بأن تشكل مركز استقطاب للوعي العام، وبناء هذه النخبة هو خطوة مركزية لتعميم أفكار الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية في مجتمعنا.
حول السؤال ما العمل لتجاوز الخلافات والتدخلات الخارجية؟ يعتقد الباحث أن ما حدث في سوريا، لم يكن مستبعدًا لمن يعرف النخب السورية، وطبيعة النظام، وأهمية البلد الإقليمية، وأخطبوط العلاقات الدولية والإقليمية التي بناها النظام السوري. ما حدث هو أقرب إلى الحتمية، طبعًا صنعته إرادات وأخطاء بشر، والتدخلات الاقليمية والدولية، لا تفعل إلا بمقدار هشاشة البنية المجتمعية.
مستقبل الشعب السوري رهن بإرادته، لكن الطريق طويل، وهناك فواتير مؤجلة علينا تسديدها، لها علاقة بالعطالة التي عاشتها النخب، وعزل مجتمعنا وشعبنا عن الشأن العام، والمهام أمام السوريين معقدة بدءًا من إزاحة هذا النظام الذي رزح على صدورهم، وإعادة بناء المفاهيم الأساسية لدى النخب وفي الوعي العام، وصولًا إلى معركة تحرر للاستقلال من جميع الدول المحتلة في سوريا، وعلى عاتق النخب السياسية والمدنية تقع بالدرجة الأولى مسؤولية إعادة بناء مشروع وطني واضح لا لبس فيه.

تهامة الجندي
جيرون 28 حزيران 2018 الرابط 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

كيف أصبح رفيق شامي قصاصًا؟