بعيدًا عن الشاطئ.. صورة رمزية عن مظالم الحكم الشمولي



تتفنن الدكتاتوريات الحاكمة باحتقار الثقافة، والتقليل من شأن المثقفين، لأن الثقافة بوصفها بحث معرفي عن الحقيقة في سياقها التطوري، هي النقيض الجوهري لمنظومة الشعارات والثوابت التي تؤسس لديمومة الاستبداد، ولأن المثقف باعتباره المنتج أو المستقبل لأشكال مختلفة من التعبير والتأثير، تتطلب الدفاع عن الحد المقبول من الحريات الفردية والعامة، هو ألد أعداء الطاغية، وفي مرمى نيرانه باستمرار من الحصار الاقتصادي والعزل الاجتماعي إلى الاعتقال والاغتيال، علاقة قسرية يضع قوانينها وشروطها الدكتاتور بنفسه، وتديرها أجهزته الأمنية بكل الاتقان.

علاقة عدوانية ومشينة بكل تفاصيلها، ذهب ضحيتها الكثير من المثقفين والمبدعين عبر التاريخ، هي التي كانت محور الفيلم البلغاري الأوكراني المشترك "بعيدًا عن الشاطئ" الذي افتتح أول عروضه مؤخرًا في صالة (لوميير) بصوفيا، عن رواية الأديب والنحات إيفغيني كوزمانوف الصادرة عام 1983، وتعود بنا إلى فترة الحكم الشيوعي في بلغاريا، حيث ينفتح المشهد على زلاتي (بينكو غوسبودينوف)، المخرج المسرحي الموهوب الذي استُبعد عن العاصمة لمدة عامين، ونُقل إلى إحدى المناطق النائية من دون توضيح الأسباب الموجبة لهذا القرار التعسفي.
حين صدر القرار بحقه، كان زلاتي مشغولًا بكتابة نص المسرحية التي يستعد لإخراجها، ويتحدث نصه عن سفينة عالقة في عرض البحر، يقودها ربان أهوج، يحاول بسط سيطرته المطلقة على جميع البحارة المتواجدين على متنها من خلال التجسس عليهم، ونشر الرعب في قلوبهم من حوادث الاختفاء والغرق المباغتة التي يتعرض لها ليلًا كل من يعارض أوامره.
صورة رمزية للحكم الشمولي، وسياسة التدجين والإخضاع، تنزاح كوابيسها المرعبة باتجاه الواقع، بينما يقوم زلاتي بالعمل مع فريق التمثيل لانجاز عرضه في المنطقة النائية. يُرفض طلبه لتمويل العرض، ويجري التحقيق تباعًا مع أعضاء الفريق المسرحي، ويتم استدعاؤه أكثر من مرة إلى قسم الرقابة، ويتعرض أحد الممثلين لديه إلى الاعتقال، لأن أخاه هرب من البلاد، وبعد الإفراج عنه بفترة وجيزة يُعثر عليه ميتًا قرب الشاطئ.
وعلى الرغم من كل المعوّقات والعيون التي تتجسس عليه، يصر المخرج على المضي بإنجاز العمل، حينها  يصدر أمر لجنة المتابعة القادمة من العاصمة بإيقاف عرضه، ليُفاجأ في الختام بافتتاح المسرحية، لكن مع نهاية سعيدة لم يكتبها، ولم يتوقعها، حيث يجتمع كل من اعتُقل وعُذب وقُتل من جديد على متن السفينة، ويبدأ الجميع بالرقص والغناء، وكأن شيئًا لم يكن.
خاتمة انقلابية وصادمة أرادها مخرج الفيلم كوستاندين بونيف أن تشكل علامة فارقة على مدى استخفاف الأنظمة الشمولية بعقول المتلقين وقواعد الفن، مخرج الفيلم الذي اعتمد لغة الإشارة والتلميح لصياغة المناخ الكابوسي الذي يحكم شروط الحياة والعمل، إن كان على متن السفينة أو على أرض الواقع، مبتعدًا قدر الإمكان عن أية محددات قطعية تتعلق بالمرحلة التاريخية، أو أية مشاهد عنفية تكشف حقيقة القمع، وكأنه أراد لفيلمه أن ينسج حبكة خالية من التحليلات والنقد، مليئة بالروامز والعلامات، لا تزال مفتوحة على الحاضر، وقابلة للإضافات من مختلف المناطق والجنسيات.
حبكة متسلسلة منطقيًا، تحركها الأحداث التي تصوغها الشخصيات الثانوية، وتظهر عبر مشاهد خاطفة في مواقع النفوذ والقرار، الخارجة عن إرادة الشخصيات الأساسية التي تبدو في أغلب الأحيان مربكة وخائفة، قليلة التعبير عما يجول في داخلها وحولها، وفي موضع المفعول به لا الفاعل، بينما تتطور الحكاية في ثلاثة خطوط درامية متوازية، أحدها يجري في الواقع، والآخر على خشبة المسرح، والثالث على متن السفينة في عرض البحر، وفي كل المسارات يتقاطع الشك والهلع الذي يسكن قلوب البشر، مع فزاعة التنكيل وتكميم الأفواه التي تحفر ظلها عميقًا خلف الشعارات الرنانة ومظاهر السكينة الزائفة.
حكاية داخل الحكاية، ومسرح داخل السينما، وحبكة رمزية، تغلق الدائرة على حلقة بغيضة من مشاهد التضييق والتشويش والاعتداء على حرية التعبير، تلاحق المثقف أينما حل، وتجبره على التفكير مليًا بمن سيشي به، وأي ثمن سيدفعه في حال تجرأ ووقف في المكان الذي يجده جديرًا بإنسانيته وضميره؟ حلقة سوداء، باردة لا تحتاج إلى الشرح والتوثيق لإثبات تطابقها مع الواقع، خصوصًا بالنسبة لنا نحن الذين طحنتنا الدكتاتوريات المقيتة في العالم العربي.

صوفيا: تهامة الجندي
شبكة جيرون الإعلامية 12 كانون الثاني 2019

"بعيدًا عن الشاطئ" (Далеч от брега):  
فيلم روائي طويل، مدته (135د)، انتاج: بلغاريا وأوكرانيا أواخر 2018، سيناريو: نيكولا بيتكوف، إيفغيني كوزمانوف، كوستاندين بونيف، إخراج: كوستاندين بونيف، تمثيل: بينكو غوسبودينوف، ستيفان فلدوريف، يوانا دافيدوفا، جوريتا نيكولوفا.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح