ماري كالفن بين السينما والواقع.. عين واحدة رأت مالم يرغب العالم برؤيته


بقلم: آية الأتاسي

تعرض الصالات السينمائية حالياً الفيلم الروائي الطويل «حرب خاصة»، وهو يروي السيرة الذاتية للمراسلة الأمريكية ماري كالفن، التي قتلت في مدينة حمص عام 2012، عندما دخلت سراً حي «بابا عمرو» برفقة زميلها المصور بول كونروي لتغطية يوميات الحصار عليه، في ظل منع السلطات السورية للصحافيين من نقل ما يجري في المناطق الثائرة.
الفيلم يبدأ في حمص، من مشهد بانورامي لأبنية مدمرة بالكامل، ليعود بنا 11 سنة إلى الوراء، إلى مكاتب جريدة «صاندي تايمز» اللندنية حيث تعمل كالفن، ثم إلى سيرلانكا حيث تقوم بتغطية تمرد «نمور التاميل» ضد السلطة الحاكمة، وهناك ستصاب عينها اليسرى بشظية، ما سيضطرها في ما بعد إلى ارتداء «العصبة السوداء» ومتابعة المهمة التي نذرت نفسها لها أي «نقل الحقيقة». أما الزمن خلال الفيلم فمرجعيته مدينة حمص، حيث قتلت كالفن، وكأن حمص هي «ساعة الصفر»، أو كان الزمن يعود بنا إلى ساحة الاعتصام الحمصية و«الساعة «في وسطها شاهدة على المذبحة في بداية الثورة السورية.

وهكذا حسب التقويم الحمصي سنتابع أحداث الفيلم في ما بعد بين لندن وأماكن الصراعات والحروب، حيث كانت ماري حاضرة لتنقل معاناة الناس العاديين، وقود الحرب، أي حرب. بداية، حرب العراق، حيث تلتقي المصور بول كونروي، وتبدأ بينهما علاقة زمالة وصداقة. ثم ليبيا، خلال الربيع العربي، ولقاء القذافي قبل أن يتحول إلى جثة في صورة «سيلفي والطاغية خلفي». وأخيراً، ينتهي الفيلم حيث بدأ في حمص، بعد قصف المركز الإعلامي، الذي أجرت كالفن فيه مقابلاتها الشهيرة مع محطة «سي أن أن»، وقالت: «لا توجد جماعات إرهابية هنا، أنا محاطة بمدنيين يموتون من البرد والجوع والقصف». إثر قصف الطيران السوري للمركز الإعلامي بعد رصد المكالمة مع القناة التلفزيونية، ستفارق كالفن الحياة، ويصاب زميلها كونوري في ساقه، ولكنه سيتمكن من الخروج بمساعدة ناشطين سوريين، لم يطلبوا منه عند نهاية النفق المؤدي إلى حريته، سوى أن يخبر العالم قصتهم، وهذا ما فعله في كتابه «تحت الأسلاك»، ولا يزال حتى اليوم يتابع كل ما يحدث في سوريا، ويكتب عنه.
لن ينتهي الفيلم بمقتل بطلته الرئيسية، فالمخرج ماثيو هاينمان القادم من عالم الفيلم الوثائقي، يلجأ إلى نهاية أكثر واقعية، حيث تظهر ماري كالفن الحقيقية في مقابلة سابقة لتقول: «في لحظات الخطر لا أشعر بالخوف، الخوف يأتي في ما بعد». وتتوالى بعدها صور ماري كالفن ومقالاتها، مصحوبة بأغنية للمغنية آني لينوكس، التي ابتعدت عن الكتابة والغناء منذ سنوات وتفرغت للدفاع عن حقوق المرأة، إلا أنها لم تستطع عندما طلب منها المخرج أغنية للفيلم، إلا أن تصغي لصوت كالفن، الذي كان صوتاً لمن لا صوت لهم. ومن هنا جاء عنوان الأغنية «لماذا»، مستوحى من جملة كالفن الأخيرة: «لماذا لا يلتفت أحد إلى السوريين، الذين يموتون كل يوم بالمئات». وجدير بالذكر هنا أن ظهور كالفن في نهاية الفيلم، لم يكن الجانب التوثيقي الوحيد في فيلم يختلط فيه الوثائقي بالروائي بشكل كبير، ويعود الفضل في هذا إلى المخرج ماثيو هانيمان، الذي أخرج سابقاً العديد من الأفلام الوثائقية، آخرها كان فيلماً يحكي عن فظائع «داعش» ضد الناشطين الإعلاميين في مدينة الرقة السورية، وفي فيلمه عن كالفن، كان لافتاً عنايته بأدق التفاصيل، من حيث لهجات الناس ولباسهم وفقاً للمناطق المفترض أنهم يأتون منها، ثم اختيار أمكنة التصوير ومحاكاتها لجغرافية الأمكنة الواقعية من سيرلانكا إلى سوريا مروراً بالعراق، على الرغم من أن المشاهد بكاملها صورت في الأردن، بالإضافة إلى الاستعانة بناس حقيقيين يروون قصصهم ولا يقومون بتمثيلها، وكل هذا أعطى للعمل مصداقية عالية. ففي مشهد المقبرة الجماعية في العراق، لم تكن النساء اللواتي ينتحبن إلا أرامل فقدن أزواجهن في الحرب العراقية، والأب الحمصي قرب فراش طفله المحتضر في المشفى الميداني، لم يكن إلا لاجئاً فقد ابن أخيه في مشهد مماثل، وهكذا لم يكن الرجل يمثل بل كان يذرف دموعاً حقيقية. أما المرأة الحمصية في «قبو الأرامل»، كما أسمته كالفن في مقالتها الأخيرة، فهي لاجئة من «بابا عمرو» ترك لها المخرج حرية الكلام، فقالت: «نحن لسنا أرقاماً، لقد رحل أجمل الشباب».
هذا فيما يخص الممثلين الثانويين، الذين كانوا يمثلون حياتهم، أما الدور الرئيسي أي ماري كالفن فقد قامت بأدائه الممثلة البريطانية روزاموند بايك، التي لم تكتف بدراسة نفسية عميقة للشخصية التي جسدتها، بل بذلت جهداً كبيراً للعثور على نبرة صوت كالفن داخلها، كما غيرت في لهجتها الإنكليزية وحركة جسدها لمحاكاة جسد ولهجة كالفن. وما شكل إضافة مهمة أيضاً للفيلم، اختيار مدير تصوير مثل روبرت ريتشاردسون، له باع طويل في تصوير المشاهد الحربية، في أفلام شهيرة مثل «بلاتون» و«الجنة والأرض». كما أن كاتب السيناريو بدوره لم يكن غريباً عن منطقة الشرق الأوسط ومشاكله، حيث أن آرش عامل هو أمريكي إيراني الأصل، وقد استند في كتابة السيناريو إلى مقال للكاتبة ماري برنر عن كالفن تحت عنوان «حرب خاصة»، ونجح عامل إلى حد بعيد في تصوير كالفن الإنسانة بكل ضعفها وقوتها، فتلك المرأة التي كانت الشجاعة لديها مرتبطة بـ«عدم الخوف» من «الخوف»، لم تكن دائماً «امرأة فولاذية»، فأشباح الحرب لم تكن تغادرها حتى وهي في شقتها اللندنية، وعذابات البشر وآلامهم لم تكن يوماً سبقاً صحافيا لها بل التزاماً ومسؤولية. وقد ظهرت الأشباح في الفيلم على هيئة فتاة مقطوعة اليدين تتراءى لكالفن ممددة على فراشها، والواقع أن هذه الفتاة ما هي إلا شابة فلسطينية كتبت كالفن عنها أثناء تغطيتها لحرب المخيمات في لبنان سنة 1987. كالفن التي رأت جثة الفتاة بأم عينيها، استوقفها القرط الجميل في أذن الصبية، وكأنها تجملت لتحيا لا لتموت.
صورة هذه الشابة وصور أخرى كثيرة لم تكن تغادر ذاكرة كالفن، ما جعلها تعاني من مرض «اضطرابات ما بعد الصدمة»، الذي يصيب عادة الجنود العائدين من الحروب، ولكن ماري رأت أكثر مما يرى الجنود، أو ربما امتلكت قلباً لا يحتمل الحرب، رغم إصرار الضمير على نقل الحقيقة. وللتغلب على معاناتها الشخصية وإطفاء كوابيس الليل، كثيراً ما كانت كالفن تلجأ إلى الفودكا، ونراها في الفيلم تقارع الشراب في لندن، بحثاً عن الخلاص أو النسيان. أما فيما يتعلق بعلاقاتها العاطفية فقد باءت في غالبيتها بالفشل، وانتهت بطلاقين، العلاقة الأخيرة لها كانت مع رجل الأعمال ريتشارد فليه، الذي التقته في آخر حياتها، وظهر في الفيلم تحت اسم «توني»، وإليه كتبت رسالتها الأخيرة من حمص: «كل يوم هنا هو رعب حقيقي، أفكر بك باستمرار، أتشوق للقائنا بعد أسبوع في لندن». ولكن الحقيقة، حسب ما قاله المصور كونوري في مقابلة صحافية معه، هي أن ماري شعرت بأنها قد لا تعيش حتى يوم الجمعة لترسل مقالها إلى «صاندي تايمز»، ولهذا حاولت أن تنقل عبر الأقمار الصناعية ما يجري على أرض الواقع، ودفعت حياتها ثمناً لهذا.
أما كونوري توأم المهنة والعين الثالثة أو عين ماري كالفن المفقودة، فقد كان حاضراً في الفيلم كبطل رئيسي، حيث قام بأداء دوره الممثل الإيرلندي جيمي دورنان، ولكنه كان حاضراً أيضاً خلف الكاميرا، حيث رافق فريق العمل طوال فترة التصوير، وكان مرجعاً للكثير من الأحداث والمشاهد، لكنه انسحب بهدوء عند تصوير مشهد مقتل كالفن، فلا نحتاج لأن نرى من نحبهم يموتون مرتين.
ويمكننا القول في المحصلة إن الفيلم استطاع بمصداقية وحرفية عالية، نقل قصة المراسلة الحربية، التي بعين واحدة رأت ما لم يرغب هذا العالم برؤيته. صحيح أن كالفن لم ترغب يوماً في أن تكون «القصة» بل كانت دائماً مسكونة بقصص الآخرين ومعاناتهم، إلا أن أهمية الفيلم تكمن في أنه يعيد تسليط الضوء على حياتها، في زمن يُقتل فيه الصحافيون وتكمم أفواههم، فلا شيء يخيف الطغاة أكثر من صوت حر ينقل الحقيقة. بعد أن انتهى الفيلم وقبل أن نغادر الصالة، التفت إلى ابنتي التي كانت قربي، فوجدتها تبكي، لوهلة أردت أن أقول لها ما اعتدت على قوله عندما كانت صغيرة «هذا تمثيل وليس حقيقة»، ولكنني كنت أعرف أنها تعرف أن هذا الفيلم هو «الحقيقة»، التي أرادتها كالفن وماتت في سبيلها.
بعيداً عن الفيلم، فإن ما كتبته كالفن بقلمها إثر إصابتها في سيرلانكا، يعبر أفضل تعبير عن التداخل بين الموت والحياة في سيرتها: «عندما اُلتقطت صور لي بعد إصابتي، وبدت فيها حمالة الصدر الحمراء من تحت سترتي، أثار مشهد الحمالة شهية بعض المتطفلين، الذين تساءلوا عن سر ارتداء مراسلة حربية لحمالة صدر حمراء مثيرة في أرض المعركة. لم يلتفت حينها أحد إلى أن لون الحمالة كان أبيض حليبي، لكنها تضرجت بدمائي الحمراء». بعد تلك الحادثة، أصبحت «عصبة العين» السوداء، المرتبطة عادة بالأشرار والقراصنة، رمزاً للإنسانية وعلامة كالفن المميزة ولم تنزعها إلا في حمص، وكأنها أرادت أن ترى بملء عينيها ما يحدث هناك، بعد أن وصفت الحرب في سوريا بأنها أبشع ما شاهدته في حياتها. المؤلم في الأمر أن كالفن التي استطاعت إنقاذ حياة 1500 امرأة وطفل في تيمور الشرقية، حين رفضت المغادرة قبل إجلائهم، ونجت من الموت والحروب مرات عديدة، قتلت في النهاية في سوريا، وانضم جثمانها إلى قافلة طويلة من الصحافيين والناشطين الذين قتلوا هناك، وكأن سوريا في هذا الزمن هي المقبرة الجماعية للضمير والإنسانية.

آية الأتاسي كاتبة سورية
القدس العربي، 9 ديسمبر 2018.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"

علي الشهابي.. شريك الثورة والجراح