"تدمير وطن" لـ نيقولاس فان دام.. التاريخ السوري يفتقر إلى التجربة الديمقراطية


في مقدمة كتابه "تدمير وطن، الحرب الأهلية في سوريا" يوضح المستشرق الهولندي نيقولاوس فان دام، أنه يتناول الأوجه المختلفة للثورة السورية، ويشرح حتمية الحرب الدامية التي تلتها، بالنظر إلى تركيبة النظام السوري الأقلوية الطائفية، وسلوكه السابق في سحق معارضيه، أملًا منه في تقديم فهم أعمق لخلفيات النزاع السوري ومجرياته، والمساعدة في استشراف آفاق الحل السياسي.
يقدم فان دام قراءته التحليلية للأحداث بصفته باحث زار سوريا مرارًا بين الأعوام 1964و 2010 وتعرف إلى أهم مدنها ومعالمها الأثرية، والتقى بناسها ووجدهم ودودين كرماء ومنفتحي الذهن، وأصدر كتابه السابق "الصراع على السلطة في سوريا"، كذلك بصفته دبلوماسي شغل منصب المبعوث الهولندي الخاص إلى سوريا خلال العامين اللذين سبقا صدور كتابه هذا عام 2017، حيث عمل من اسطنبول بدعم من فريق مختص بالشؤون السورية، ما أتاح له إجراء اتصالات مكثفة مع معظم الضالعين في النزاع السوري، والإطلاع على آرائهم المتضاربة.

المقدمات التاريخية وانقلاب الأسد
يشير الباحث إلى أن سوريا الحالية هي تاريخيًا جزء مما كان يُدعى "سوريا الكبرى، أو "بلاد الشام"، أي الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين وجنوب تركيا، وهي منطقة عربية تتميز بجذر لغوي واحد. ويستعرض المتغيرات التي طرأت على حدودها باقتطاع أجزاء منها، وضم "منطقة الجزيرة" إليها التابعة لبلاد "ما بين النهرين"، وهي منطقة عربية لها خصوصياتها ولهجتها المختلفة. ويرى أن ذلك أحدث إرباكًا في مسألة الانتماء إلى الوطن السوري والهوية السورية لفترات طويلة.
يعتبر المؤلف أن تاريخ سوريا البعيد والقريب يفتقر إلى التجربة الديمقراطية، وأن تاريخها منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1946 شهد عدة انعطافات مفصلية قبل انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، أبرزها: استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، الذي أحدث نقلة جذرية في المشهد السياسي من حكم السنة الحضرية إلى حكم الأقليات الإسلامية الريفية، العلوية والإسماعيلية والدرزية، ثم انقلاب حافظ الأسد 1970 الذي قضى على آفة الانقلابات العسكرية، فتمرد 1976، ومجزرة حماه 1982.
يلاحظ فان دام أن حافظ الأسد بدأ عهده بالإجهاز على قادة البعث السابقين، العسكريين منهم والمدنيين، الأقليات والسنة على حد السواء، واستبدالهم بنخبة من العلويين في صفوف الحزب والجيش ومؤسسات الدولة وأجهزة الأمن، بحيث باتوا يشكلون منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين ما يعادل 86 بالمئة من قادة القطاعات الحكومية والمراكز العسكرية والأمنية الحساسة، في حين أن الطائفة العلوية لا تتجاوز العشرة بالمئة من إجمالي عدد السكان في سوريا، وفي معرض حديثه عن تصفية القادة السابقين يذكر اعتقال صلاح جديد ونور الدين الأتاسي وآخرين مدى الحياة، اغتيال محمد عمران في طرابلس 1972، اغتيال صلاح البيطار في باريس 1980، واختطاف شبلي العيسمي في لبنان 2011، وكان من مؤسسي "البعث"، ثم اعتزل السياسة عام 1993.
يعتقد المؤلف أن الخلفية الأقلوية الطائفية، والعلمانية في آن تبعًا لعقيدة البعث، شكلت عامل استفزاز للأغلبية السنية، وأدت إلى سلسلة من الاغتيالات، نفذتها "الطليعة المقاتلة" في جماعة الإخوان المسلمين، أبرزها المقتلة التي قام بها إبراهيم اليوسف بحق الطلاب العلويين في مدرسة المدفعية بحلب عام 1979، تبعتها محاولة اغتيال حافظ الاسد 1980، وانتفاضة حماه، فكان رد قوات النظام بارتكاب مجزرة سجن تدمر وقتل ألف من المعتقلين الإخوان، وارتكاب مجزرة حماه الأولى، ثم الثانية التي راح ضحيتها 25 ألف قتيل، نموذج القمع الوحشي الذي سيتكرر في كافة المدن السورية أثناء الثورة.
Nicolas Van Dam
يستعرض فان دام إشكالية توريث الحكم بين عائلة الأسد التي ظهرت إثر مرض حافظ عام 1983، ويذكر حادثة تمرد أخيه رفعت عام 1984، وإرغامه على مغادرة سورية، ثم مقتل وريثه الأول، ابنه باسل، في حادث سير عام 1994، وصولًا إلى استلام بشار للسلطة بعد تعديل سريع في الدستور السوري عام 2000. واستحسان الغربيين للرئيس الجديد نظرًا لدراسته طب العيون في لندن، كما يلفت الانتباه إلى ولادة بشار ونشأته في دمشق، مثله مثل ابناء كبار الضباط العلويين، الذين باتوا يتصرفون بوصفهم دمشقيين أكثر من كونهم علويين، ويميلون إلى قطاع الأعمال والاستثمارات أكثر من ميلهم إلى العسكر، ما أدى إلى انخفاض أعداد الجيش النظامي، وهو ما يفسر ظهور الميليشيات العلوية كالدفاع الشعبي والشبيحة وقوات النمر بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، كما يفسر تمسك الرئيس بكامل سوريا، وليس بمنطقة جبال العلويين وحدها.
الثورة السورية والحرب بالوكالة
يرى المؤلف أن نظام الأسد الذي حكم سوريا لخمسة عقود بتركيبته الطائفية، القمعية، الدموية، لا يمكن التعويل عليه في إجراء أية إصلاحات تفضي إلى حكم ديمقراطي، ويبدي تعاطفه مع الثورة السورية، ويعتبر أن بطش النظام بالمتظاهرين السلميين بالرغم من إلغاء قانون الطوارئ، وقرار الرئيس بوقف إطلاق النار في أيار 2011، كان أحد العوامل التي أدت إلى عسكرة الثورة، إضافة إلى الدعم الذي بدأت تتلقاه من الخارج، كما ينوه إلى إطلاق سراح 260 معتقل من الإسلاميين والكُرد في 26 آذار 2011، منهم حسن عبود وزهران علوش.
يتحدث عن الحوارات الفاشلة بين النظام والمعارضة، وعن انشقاقات رجال الدولة والجيش، وأبرزها انشقاق مناف طلاس والعقيدة زبيدة الميقي 2012، ويتطرق إلى تشكيل هيئات الثورة وألوية الجيش الحر، ومن ثمة دخول أكثر من 30 ألف مقاتل من غير السوريين، وظهور تنظيم "داعش" والتنظيمات الجهادية والجماعات الكُردية المسلحة. ومع دخول المقاتلين الأجانب والدعم الخارجي ليس فقط إلى صفوف المعارضة، بل أيضًا إلى صفوف نظام الأسد من القوات الروسية وميليشيات إيران وحزب الله، لم يعد النزاع داخليًا، ولم يعد ينطبق عليه مصطلح "الحرب الأهلية"، بل بات حربًا بالوكالة تستعر على الأرض السورية، وبعد هذا الشرح لم أجد تفسيرًا لماذا وضع فان دام كتابه بعنوان "الحرب الأهلية في سوريا"؟.
يعتبر الباحث أن الموقف الدولي من الثورة السورية يتسم بالمراوغة، فمنذ آب 2011 اتفق قادة الدول الغربية على رحيل نظام الأسد، وشجعوا على قتاله، لكنهم لم يدعموا "الجيش الحر" بالقدر الكافي، ولم يتدخلوا عسكريًا لحماية المدنيين، وحين تجرأ النظام السوري وكسر الخطوط الحمراء باستخدام السلاح الكيماوي في قصف المناطق المحررة، لم يتلقَ أي عقاب، باستثناء ضربة ترامب الخاطفة على مطار الشعيرات في ربيع 2017 ردًا على قصف خان شيخون. ولم تكسب الدول التي لم تدعم المعارضة بشكل كاف سوى المزيد من اللاجئين والإرهاب وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، واشتداد النزعة القومية لدى الأكراد، فعادت تقبل بالأسد، وتسعى لإيجاد حل سياسي لإنهاء الصراع. 
لم يكن العامل الخارجي وحده من أضعف انتفاضة السوريين، بل أيضا الاقتتال بين الفصائل المسلحة، والخلافات داخل هيئات الثورة والمعارضة حول الموقف من الأقليات، والمسألة الكُرديّة وقيام "روج آفا"، واسم الدولة المقبلة إن كان "الجمهورية العربية السورية" أم "الجمهورية السورية"، وطبيعة الحكم فيها إن كان علمانيًا أم إسلاميًا، وغيرها من المسائل الإشكالية التي تعززت بتدخل من الجهات الخارجية.
يخلص فان دام إلى الاستنتاج أن لا حل لتفادي الحرب الدامية في سوريا سوى بالحوار مع النظام، ويرى أن حقن الدماء أولى من العدالة، ويتهم قوى الثورة والمعارضة بالافتقار إلى البراغماتية، كونها ركزت جهدها على عدم شرعية نظام الأسد، وعلى تنحية الرئيس بشار ومن تلطخت أيديهم بالدماء، وتقديمهم إلى المحاكمة. وهي مطالب مفهومة، لكنها غير قابلة للتحقيق، زادت من وحشية النظام، وقللت من فرص التسوية، لاسيما أن مقررات جنيف 2012 لم تأتِ على مصير الأسد. كذلك ينتقد الدول الغربية على إغلاق سفاراتها في دمشق، وقطع علاقتها مع النظام السوري، ما أدى إلى انقطاع قنوات الحوار المباشر معه، والضغط عليه للوصول إلى حل سياسي.
من الغريب أن يصل نيقولاس فان دام إلى استنتاج يتناقض مع المقدمات والمعطيات التي أوردها، ويطالب المعارضة بالتنازل عن أهم الأوراق التي تمسك بها، فنظام الأسد فاقد للشرعية بكل معايير الدستور السوري والقانون الدولي وحقوق الإنسان، منذ انقلاب حافظ الأسد واستمراره في الحكم ثلاثين عامًا، أسس خلالها دكتاتورية الفرد الواحد، والدولة العسكرية الأمنية، وعمل على استبدال نظام الحكم الجمهوري بنظام وراثي يقتصر على سلالته فقط، وبنى شبكة واسعة من العملاء والمفسدين للاستحواذ على ثروات البلد، بحيث بات أبناء الأسرة ذات الأصول الفقيرة من أغنى أثرياء سوريا والعالم، وحين ورث بشار الحكم بتعديل دستوري لم يُستفتى عليه أحد، تابع مسيرة أبيه بالمزيد من القمع والفساد قرابة عشرين عام، وفي ذمة هيئات المجتمع الدولي مئات الألوف من الوثائق التي تثبت تورطه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية منذ بداية الثورة السورية.
ومن الغبن تحميل قوى الثورة والمعارضة وزر تقويض مساعي الحل السياسي والتسوية، فهي بكافة أطيافها لا تملك صلاحية اتخاذ القرارات، جلّ ما تستطيع فعله هو رفع مطالبها إلى الجهات المسؤولة، وممارسة الضغط من أجل تحقيقها. النظام السوري هو صاحب القرار، وهو من أدار ظهره للحوار واعتمد الحل الأمني، العسكري في كل مراحل الثورة، ولم يلتزم بأي من القرارات الدولية أو التسويات التي وقع عليها للتهدئة، ولا يزال يخوض حربه الشعواء ضد المدنيين العزل باسم القضاء على الإرهاب، يدمر ويقتل ويشرد ويعتقل ويمارس سياسة الحصار والتجويع بالرغم من كل الجهات الضامنة.
ليس من الإنصاف النظر إلى الثورة السورية انطلاقًا من منطق الأقليات والأكثرية، وإلحاق المعارضين من السنة بجماعة "الأخوان المسلمين" أو "داعش" وغيرها من التنظيمات الجهادية المتشددة، التي تحمل عقيدة دينية إقصائية، وتقاتل من أجل الدولة الإسلامية، فالثورة رفعت مطلب الدولة الديمقراطية التعددية وحقوق المواطنة، وحظيت بتأييد ومشاركة واسعة من كافة أطياف الشعب السوري، والسنة في الثورة ليسوا كيانًا واحدًا، هم مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأفراد: عرب وكُرد، مدنيون وعسكريون منشقون، متدينون ومعتدلون ومحافظون وملحدون ورجال دين، ليبراليون ويساريون وقوميون وعلمانيون، أميّون وحملة شهادات من كل الاختصاصات، مفكرون وكتاب وفنانون وإعلاميون وغير ذلك، ومعظمهم يمارس نشاطه إما بشكل مستقل أو من خلال الأحزاب السياسية وهيئات الثورة ومنظمات المجتمع المدني، وعمومًا هم على خلاف مع الإسلاميين المتشددين ومعرضين لتهديدهم وعنفهم، مثلهم مثل الأقليات أو ربما أكثر.

تهامة الجندي
25 أغسطس 2019 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة