محمد شحرور.. نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي

في كتابه "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي/فقه المرأة" حاول الدكتور محمد شحرور إعادة قراءة منظومة الإسلام الفكرية بالاستناد إلى قوانين المادية الجدلية والرياضيات الحديثة وعلم اللغة، من أجل الوصول إلى الإسلام في كينوته الذاتية، بعيدا عن الأحكام والشروح والتشريعات التي جعلته ينغلق في بوتقة الماضي، ويفقد بعده التطويري، ما يكسب جهده نزعة تجديدية أصيلة تلبي حاجات الانفتاح والنمو في المجتمعات الإسلامية الراهنة بغض النظر عن موجة الانتقادات العارمة التي أثيرت حوله.  

ينطلق الدكتور شحرور في معاينته لمفاهيم الإسلام من مقولات التطور الجدلي بإحداثياته الثلاث: الكينونة والسيرورة والصيرورة (كان، سار، صار)، ويرى أن الكينونة هي الوجود المادي الذي يشغل حيزا في الفراغ خارج الوعي الإنساني، والسيرورة هي حركة هذا الوجود في الزمن، أما الصيرورة فهي ما انتهت إليه الكينونة بعد مرورها بمرحلة السيرورة، ما يعني أن الكينونة والسيرورة كشكل مستو يمثلان الوجود بمركباته، ومحور الصيرورة يمثل التطور والتحول (إلغاء/ إضافة/ تطوير كمي ونوعي) ومن هذا المحور ينشأ التدرج، ثم التنوع الدرجي ضمن النوع الواحد، وفيه يظهر قانون النفي ونفي النفي، القانون الأساس الذي تكمن فيه غائية الوجود، وهو ما نراه جليا منذ لحظة الانفجار الكوني الأول، حيث ظهرت الفوتونات فقط، ثم تحوّل قسم منها إلى هيدروجين فقط، ثم إلى هيليوم، ثم إلى عناصر رئيسية تجمّعت لتنتج مركبات عضوية، ثم غير عضوية، ثم كائنات حية بأبسط صورها (واحدات الخلية) إلى أن ظهر البشر على الأرض ثم الإنسان، ومازال هذا الكون بكينونته وسيرورته في مرحلة صيرورة مستمرة لا تتوقف (ص28).

الجنة والنار

على هذه الأرضية الجدلية يعيد الباحث قراءة مفاهيم: الجنة والنار، الذات الإلهية، الرسالات السماوية، النص القرآني، الأحاديث النبوية والمرجعية الفقهية، فيلاحظ أنه إذا أخذنا محوري الكينونة والصيرورة نتج لدينا مستوى لا سيرورة فيه ولا حركة وزمن، ليصبح الوجود قوانين وأشكالا ثابتة لا تتغير ولا تتطور ولا يطاولها الهلاك، وهو ما عبّر عنه تعالى بمفهومي الجنة والنار، وهذا يتطلب علاقة جديدة بين المادة والزمن وشكلا جديدا من أشكال الوجود المادي نجدهما في التنزيل الحكيم تحت عناوين قيام الساعة ونفخة الصور، أي هلاك صيرورة الأشياء السابقة ونشوء صيرورة جديدة ثابتة، بمعنى أن الغاية من الانفجار الكوني الأول في صيرورته النهائية هي الانفجار الثاني المتمثل بنفخة الصور (ص29) وهذا هو قانون نفي النفي، الانفجار الكوني الأول نفى ما قبله، عدما كان أو غير ذلك، وقيام الساعة ونفخة الصور نفي للنفي الأول، واليوم الآخر والبعث نفي للكون الذي ينتهي إلى وجود لا صيرورة فيه، هو الغائية في ذاتها، فيبطل قانون صراع المتناقضات، وإذا كانت غائية الوجود المادي هي الساعة والصور والبعث، فإن الغائية الدنيوية للإنسان هي الحياة والحرية، والغائية الأخروية له هي الجنة (ص34).

الذات الإلهية

يرى الباحث أن الضوء هو الموجود الوحيد الغائي بذاته، لذا قال تعالى "الله نور السموات والأرض" (ص33) كما يرى أن البحث عن الذات الإلهية هو بحث خاص بالموجود العاقل، ويتم في حقلين معرفيين: الأول كوجود مستقل بذاته هو الله، والثاني كوجود يُدرك من خلال الموجودات الخاضعة للكينونة والسيرورة والصيرورة، هو الرب وهو الإله.

الله في ذاته كينونة فقط، أبدي، أزلي، لا يخضع لصيرورة أو سيرورة، وكل أسمائه الحسنى في ذاته الإلهية واحدة لا تمايز ولا تفاضل بينها(ص27)، كينونة تصدر عنها السيرورة والصيرورة، وليست جزءا منها، وهذا ينفي الحلول ووحدة الوجود (ص38)، أما كينونة الله عندنا فهي الأسماء الحسنى، ولهذا لا نجد لفظ الجلالة في التنزيل الحكيم مفردا أبدا، بل مقترنا بصفة من صفاته تعالى، وفي هذه الصفات تظهر الألوهية والربوبية.

وإذا كانت الكينونة في ذاتها هي الله، فالعدم هو علم الله بالموجودات قبل وجودها، فكل الموجودات بظواهرها وقوانينها وعلاقاتها كانت في علم الله دالات دون مدلولات، وعند الخلق وبعده بدأت الدالات تأخذ مدلولاتها الوجودية (ص39)، وعلاقة الموجودات بالخالق علاقة الكلام بالمتكلم، فهي صادرة عنه، وليست جزءا منه، ويعني أن محاور الكينونة والسيرورة والصيرورة، هي من طبيعة الموجودات، وهي كلمات الله الحق (ص40).

وقد خضع تصوّر الإنسان لله إلى الصيرورة، فالإنسان البدائي تصوّره مشخصا في النجوم وظواهر الطبيعة، ولهذا افترض تعدد الآلهة والأرباب، وانتقل من عبادة الآلهة المؤنثة إلى المذكرة، حتى وصل إلى التجريد ورسالات التوحيد، ويكّمن جوهر جميع دعوات الرسل والأنبياء في تصحيح مفهوميّ الربوبية والألوهية (ص41).

التنزيل الحكيم والاجتهاد

يعتبر الدكتور شحرور أن الإسلام هو سلسلة من الرسالات السماوية بدأت برسالة نوح واختُتمت بمحمد الذي جاءه التنزيل الحكيم وحيا من الله تعالى، وفيه النبوة والرسالة، وبهذا انتهت الوصاية الخارجية على الإنسانية، كما يعتبر التنزيل الحكيم كينونة بذاته، يُدرك جزئيا وعلى مراحل ترتبط بمستوى صيرورة المعرفة الإنسانية المتغيرة باستمرار، فهو نص حي، مكتف بذاته، صالح لكل زمان ومكان، ومفاتيح فهمه في داخله، لكن لا يجوز لأحد أن يملك الإدراك الكامل بجزئياته وكلياته، حتى ولو كان نبيا ورسولا، لأنه يصبح بذلك شريكا لله بعلمه الكلي، وشريكا له في كينونته لذاته، فالتنزيل يُفهم في حدود سيرورة وصيرورة القارئ، وهو ما يعنيه ثبات النص وحركة المحتوى والجدل فيما بينهما.

يحتوي التنزيل الحكيم (القرآن) على ثلاثة أنواع من التعليمات: 1-شعائر الإيمان (الشهادة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج)، 2-الأخلاق، وهي منظومة من القيم والمثل العليا المتراكمة تاريخيا من نوح إلى محمد (عدم الشرك بالله، بر الوالدين، تحريم قتل النفس بغير الحق، تحريم الفواحش، البر باليتيم وعدم أخذ ماله، الوفاء بالكيل والميزان، العدل..) 3-التشريع (الشريعة وهي آيات الأحكام).

التحليل اللغوي لبعض الآيات القرآنية قاد الباحث إلى التأكيد أن النسخ لا يكون إلا بين الشرائع السماوية، والاجتهاد لا يكون إلا من داخل النص المقدس، ولا يجوز في الشعائر، بل إن طاعة الرسول واجبة في هذا الحقل كجزء ثابت من الرسالة المحمّدية على مر الأيام، كما لا يجوز الاجتهاد في حقل الأخلاق، لأنها مطلقة وشمولية ومرتبطة بالضمير الإنساني، ويبقى الاجتهاد مقتصرا على الفرع الثالث الذي يشمل مختلف الأنشطة الإنسانية من زواج وطلاق وإرث وبيع وشراء ولباس وما شابه، حيث يتحرك المجتهد بين حدود الله الدنيا والحدود العليا بما يناسب معارفه وظرفه الزماني والمكاني، وتبعا لهذه القراءة فإن سمة القدسية تُنزع عن سنن الفقه الإسلامي في صيغته التراثية، ويبطل مفعولها بالتقادم، بما في ذلك الشروح عن أسباب النزول وأحكام القياس والنسخ واعتماد الأحاديث الشريفة إلا ما تعلق منها بكيفية أداء الشعائر.

 المجتمعات العربية

يؤكد الباحث أن المجتمعات الإنسانية مجتمعات عاقلة، تربط أفرادها علاقات واعية، وتتميز بإدراكها لمحور الصيرورة، أي حركة التطور التاريخي التي يلعب الإنسان دورا أساسيا وفاعلا في تسريعها أو إبطائها، ولا عجب أن يتمحور كل القصص القرآني حوله باعتباره حقل الفعل الإنساني، وحقل الخيار الإنساني، وحقل الغائية من هذا الخيار، وحقل الثواب والعقاب.

وفي هذا السياق يستنكر المؤلف حال المجتمعات العربية التي باتت مسطحة ذات بعدين، لأنها ألغت البعد التطوري من حياتها على الرغم من اختلاف توجهاتها الفكرية (إسلامية، اشتراكية، ليبرالية)، فهي لم تشارك في الصيرورة العلمية أو التكنولوجية المعاصرة، بل تقوم فقط باستهلاك منجزاتها، أما على مستوى صيرورة العلوم الإنسانية فقد تشكلت معارفها خلال القرون الهجرية الأولى، وثمة عداء بين الفقه الإسلامي والقانون المدني، نجده أولا في التركيز على الشعائر، علما بأنها ثابتة لا تدخل في الثقافة، وإنما تحدد هوية الانتماء إلى الرسالة المحمدية، ونجده أيضا في إضافة أمور على الشعائر بدعوى أنها ثابتة كالحجاب الشرعي، علما أن الحجاب من الأعراف والتقاليد ولا علاقة له بالإسلام أو بالإيمان، كذلك نجد العداء في تغييب الحرية الإنسانية وحقوق الإنسان، وتغييب النظريات الاقتصادية بكل فروعها وتفريعاتها، وطرح شعار حاكمية الله الذي ألغى كل مفهوم للخيار الإنساني.

ويخلص المؤلف إلى القول إن الثقافة ذات البعدين هي ثقافة مغلقة بالضرورة، لأنها تتبنى وتعيش ثقافة أشخاص عاشوا في التاريخ، والإنسان الذي يحمل مثل هذه الثقافة إنسان مستبد بالضرورة، إذ لا يمكن لثقافة من هذا النوع أن تعيش وتستمر إلا بالقوة وبالعنف وبالإكراه، لأنها تنفي الصيرورة، وتغيّب العقل، وما الكتب التي نقرؤها عن منكر ونكير وعذاب الساعة إلا وسيلة إرهاب ومصادرة للعقل، ولم يخضع شعب لممارسات الإرهاب الفكري والمادي كالشعب العربي الإسلامي الذي غاب تحت وطأة هذا الإرهاب عن ساحة الفعل الإنساني ومازال (ص49).

وربما تكون أهم المواضع في قراءة الدكتور محمد شحرور ماثلة في محاولته إنصاف المرأة من أحكام الفقه الذكوري الجائر، والدعوة لتحرير العقل من سلطة رموز الماضي، وإقامة علاقة جديدة بين المسلم وكتاب الله، لا تشوبها وصاية من الأئمة والأولياء والأسلاف، بل تدخل في صلبها المعارف والعلوم الحديثة، لطي صفحة التأخر وبناء المجتمع المدني انسجاما مع روح العصر ومتطلباته.

 

دمشق: تهامة الجندي

‏03‏/05‏/2011

نُشر في "الكفاح العربي"

 

محمد شحرور (1938-21 ديسمبر 2019)

"نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي/ فقه المرأة/ الوصية الإرث، القوامة" التعددية، اللباس". 383ص من القطع الكبير. المؤلف: د. محمد شحرور. الناشر: دار الأهالي/ دمشق 2000. 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

غرافيتي الثورة: "إذا الشعب جاع بياكل حكّامه"