جين شارب.. نظرية اللاعنف للانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية

يشكك الكثيرون في قدرات "الربيع العربي" على إحداث التغيير نحو الدولة الديمقراطية، ويتهم أصحاب "نظرية المؤامرة" الناشطين والمتظاهرين السلميين بالعمالة لقوى خارجية معادية، تقوم بتدريبهم وتمويلهم، متجاهلين، عن قصد أو جهل، حقيقة أن "الكفاح السلمي" لمقاومة الطغيان والفساد والاحتلال، أسلوب معروف وقديم قدم التاريخ، أثبت نجاحه وتفوقه على أسلوب الكفاح المسلح في الكثير من تجارب الشعوب المقهورة، لاسيما في العقد الأخير من القرن العشرين، حين أسفر عن هزيمة الأنظمة الديكتاتورية وانهيار المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية.

"الكفاح السلمي" واحد من أساليب المواجهة والمقاومة، يعتمد على مجموعة من الوسائل البسيطة والمتاحة للتعبئة العامة والضغط على الخصوم، لا تتطلب الكثير من المهارات والتدريب والتمويل التي يحتاجها حمل السلاح، بقدر استنادها إلى الشعور العالي بالمسؤولية الاجتماعية والمبادرة الطوعية والاستعداد للتضحية من أجل القضايا العادلة، وهي سمات تنفي تمامًا تهم العمالة والارتزاق. لكنها لا تمنع اختراق المخبرين والانتهازيين للحراك السلمي على اعتبار أن كل دعوات الاحتجاج تحدث بالعلن وتتوجه إلى الجميع.

وعلى ذلك فهو أسلوب مشروح باستفاضة في مجموعة من المصادر المجانية، المتوفرة على الإنترنيت، يمكن لأي كان أن يطلع عليها، ويبدأ بممارستها بشكل مستقل أو جماعي، ولعل من أبرز تلك المصادر هي إصدارات المفكر الأمريكي جين شارب (1929-2018) مؤسس "معهد ألبرت أينشتاين" عام 1983، وهو معهد مستقل ومتخصص بدراسة "المقاومة السلمية" و"نظرية اللاعنف" كسلاح سياسي ضد الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان والعدوان الخارجي في جميع أرجاء العالم. 

الديكتاتوريات تتجاهل المحددات القانونية والأحكام القضائية والرأي العام، ولا تسمح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة تؤدي إلى عزلها، وتفرط باستخدام العنف، ما يوحي بأن العنف المسلح هو الوحيد القادر على إسقاطها، ويجعل الكثير من المعارضين الذين يعيشون تحت نير الديكتاتورية، أو في المنفى، يشككون بقدرة الشعوب على تحرير نفسها، ويفكرون بتدخل القوى الأجنبية أو الانقلابات العسكرية أو المساعدة الدولية عبر هيئة الأمم المتحدة والرأي العام الدولي والمقاطعة السياسية والاقتصادية، يقول جين شارب في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية".

ويوضح شارب مساوئ اللجوء إلى العنف للنضال ضد الديكتاتورية، فهو يعني استخدام أسلوب يتميز الطغاة دومًا بالتفوق به، تفوق في الممارسة الوحشية، وتوفق في المعدات والأسلحة، وغالبًا ما تستمر المعارك طويلًا، وتكون الخسائر فادحة، ولا تأتي المساعدة الخارجية لأن الدول تبيع الشعوب المضطهدة حفاظًا على مصالحها، وعند نجاح المتمردين فإنهم يخلقون ديكتاتورية أسوأ مما أسقطوها في أغلب الأحيان.

ولتلك الأسباب يدعو المؤلف إلى الاعتماد على القوة الذاتية لإسقاط الدكتاتورية عبر تعزيز ثقة الشعوب المضطهدة بنفسها، ومساندة تصميمها على نيل الحرية، ودعم جماعاتها ومؤسساتها المستقلة، وتطوير مهارات المقاومة السلمية لديها، فالحكام لا يملكون قوة ذاتية، وليسوا مطلقيّ القوة، قوتهم تعتمد على طاعة الآخرين لهم وتعاونهم معهم، ويمكن سحب هذه القوة باللجوء إلى الكفاح اللاعنيف.

و"الكفاح اللاعنيف" هو أسلوب سياسي لحشد القوى في مواجهة الخصم، الذي قد يكون جهاز الحكومة عندما تسيطر عليه نخبة معادية لأغلبية الشعب، أو جهاز غير حكومي تدعمه الحكومة، كما يمكن أن نطلق تسمية "الجماعة المظلومة" على الأغلبية الساحقة من السكان التي تتأثر سلبًا بممارسات الخصم في قضايا معينة أو بشكل عام، وعادة ما تكون الجماعة المشاركة في الكفاح أصغر من الجماعة المظلومة.

يستخدم "الكفاح اللاعنيف" أدوات نفسية وسياسية واقتصادية واجتماعية لممارسة الضغوط وفرض العقوبات، ولا يستخدم الأدوات العنيفة، ويتضمن هذا الأسلوب ما يقارب مائتي أداة للاحتجاج الرمزي واللاتعاون السياسي والاجتماعي والمقاطعة الاقتصادية والتدخل اللاعنيف، وتتراوح هذه الأدوات من إصدار المنشورات والإضرابات العمالية والإضراب عن الطعام، إلى الاعتصامات وإعلان العصيان الشامل، وحتى إقامة حكومة الظل.

وهنا يؤكد شارب على أنه ينبغي عدم الخلط بين اللاعنف كأسلوب سياسي لتحقيق مطالب الشعوب والجماعات المقهورة، وبين دعوات "نبذ العنف" التي تحث عليها العديد من المعتقدات الدينية والأخلاقية، مع أنها قد تكون دافعًا للانخراط في حركة اللاعنف أحيانًا.

"الكفاح اللاعنيف" هو في حقيقة الأمر معركة كما هي الحرب، تتطلب حشد القوات، وإصدار البيانات، والتأسيس لإعلام مستقل، وتنظيم حملات العصيان، وشن الهجمات والشجاعة والصمود، مع وجود خطة استراتيجية واضحة وأساليب معينة لاستخدامها في إطار فترة زمنية محددة، وعلى المنخرطين في حركة اللاعنف أن يرفضوا الخضوع، ولا ينجروا إلى حمل السلاح مهما بلغت شدة القمع. ونجاح نظرية "الكفاح اللاعنيف" يحتاج إلى مقاومة موحدة، فرفض المواطنين للحكومة الجائرة، يجب أن يُترجم في رفضهم للتعاون معها، والعمل ينبغي أن يكون جماعيًا، فعندما تكون الأقلية الحاكمة موحدة، وتكون الجماهير مفتقدة للتنظيم المستقل، يسهل على السلطة استهدافهم فرادى.

في كتابه "البدائل الحقيقية" يرى جين شارب أن أسلوب اللاعنف يعني بناء القدرة الذاتية لدى المواطنين على المواجهة من أجل قلب تأثيرات القمع، وتقويض مصادر قوة الخصم، لذلك فإن تطبيق هذا الأسلوب لحل الأزمات الحادة يحتاج إلى الكثير من المعرفة والشجاعة والتخطيط الاستراتيجي، ويتم صقله وتطويره عبر استخدامه مرة تلو الأخرى، والتوعية الجيدة حول مدى أهميته، على اعتبار أن القوى المسلحة غالبا تُستخدم لقمع الشعب، بينما أسلوب اللاعنف تستخدمه الجماهير من أجل إطلاق الحريات العامة.

ويعتقد شارب أن بناء القدرة الذاتية يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية، أولها الاعتماد على الذات، بما يعنيه من القدرة على إدارة النواحي الشخصية والحكم على الأمور، والقدرة على إعالة النفس والاستقلال وتقرير المصير وتحقيق الاكتفاء الذاتي. وثاني المرتكزات ضمان ان تكون الاستراتيجيات المختارة ضمن مقدرة الشعب وإلا فيجب تعديلها، وثالثها الحفاظ على روح المبادرة والزخم والفعل بدلًا من ردات الفعل، بهدف توجيه النضال وفق شروط المجموعة المقاومة، وليس وفق شروط الخصم.

بهذين الكتابين حاول جين شارب تطوير نظرية "الكفاح اللاعنيف" وشرح أدوات ما يمكن تسميته بـ"ثقافة الاحتجاج" العلني والسلمي، على اعتبار أن العنف ليس الطريقة الوحيدة لإظهار القوة والشجاعة، وأن حمل السلاح يتطلب الكثير من المعدات والتدريب والتمويل، ويقتصر على المقاتلين الأشداء فقط. في حين أن النضال اللاعنفي يعكس مصادر القوة الكامنة، المتعددة الجوانب، ولا يحتاج لإمكانات ضخمة وقائد يسحر الجماهير، ويؤدي إلى اشراك أكبر عدد من الناس، بمن فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة. وهو عامل مشترك وظاهرة ممتدة بين الثقافات المختلفة، لا تقوم على المعتقدات الدينية، ولا تميز بين الأديان والطوائف، ولا تركز على الماضي، بقدر ما تنطلق من احتياجات الحاضر والمستقبل، وهذا من شأنه أن لا يفرق بين البشر، بل يجمعهم ويصون حريتهم وحقوقهم.

 

 تهامة الجندي

20 فبراير 2021

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة