غاندي في "قصة تجاربي مع الحقيقة".. على المرء أن يحب أدنى المخلوقات كما يحب نفسه

أعادت "ثورات الربيع العربي" إلى مقدمة الواجهة الفكرية أسلوب "اللاعنف" لنيل الحقوق والحريات، الأسلوب الذي أرسى قواعده نظريًا وعمليًا موهانداس كرمشاند غاندي (1869-1948)، ومن يقرأ سيرة غاندي التي صدرت طبعتها الأولى باللغة الجوجراتية في مجلدين عاميّ 1927و1929 تحت عنوان "قصة تجاربي مع الحقيقة"، من يقرأ السيرة سوف يُفاجئ أن هذا الرجل الذي ذاع صيته في جميع أرجاء العالم، ولُقب بالمهاتما أو "الروح العظيمة"، وكان واحدًا من أبرز قادة حملات العصيان المدني الشامل التي أدت إلى استقلال بلده الهند عن المملكة البريطانية عام 1947. هذا الرجل دخل معترك الحياة صغيرًا، وكان شخصًا بسيطًا، تغزو نفسه العديد من المخاوف والأهواء، لم يتسع وقته لقراءة الكثير من الكتب، ولفترات طويلة من عمره لازمه خجل فطري حاد، كان يوقعه في الكثير من المواقف الاجتماعية المحرجة، ويجعله يشعر بالدوار ويتلعثم إذا ما اضطر إلى إبداء رأيه أو إلقاء بضعة كلمات أمام الجمهور.

لم يخفِ غاندي خجله، بل تناوله باستفاضة في سيرته، وكتب: "كان خجلي هو درعي الواقي، فقد سمح لي بالنضوج وساعدني على تمييزي للحقيقة". كذلك تطرق لعيوبه وسلبياته بمنتهى الصدق، وأوضح كيف استطاع أن يتغلب على مواضع ضعفه، ويبتكر أسلوبه الخاص للإسهام في الشأن العام والانخراط في حركة الإصلاح والتغيير على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مستندًا إلى جملة من القيم الروحية والأخلاقية، لعل أبرزها: الانفتاح على الآخرين والإحساس بآمالهم وآلامهم، الاعتماد على الذات والعمل الطوعي، تقويم الأخلاق، إيقاظ الضمير، إعمال العقل، شحذ الإرادة، الصدق والتواضع، نظافة البدن ومكان العيش، الحب والإيثار والاستعداد للتضحية. وكان على قناعة أن تعميم هذه القيم على المستوى الجمعي كفيل في مقاومة كافة أشكال الظلم والعدوان. فقد كان يؤمن أن القوة لا تنبع من القدرات الجسدية، إنما من العزيمة التي لا تُقهر، وأن سمو الإنسان يتحدد بالقدر الذي يعمل فيه على رعاية أخيه الإنسان، بصرف النظر عن الاختلافات العرقية والإثنية والمذهبية أو الفوارق الاجتماعية والجندرية.

السيرة الحياتية والمهنية

وُلد غاندي يوم الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1869 في إمارة بور بندر بمقاطعة غوجارات بالهند لأسرة هندوسية تتمتع بمكانة اجتماعية مميزة، فجده ثم والده كانا رئيسيّ وزراء في الإمارة، وكانت والدته امرأة صالحة ومتدينة جدًا، غرست في نفسه تعاليم دينه، من اتباع اسلوب الحياة السلمي والبسيط، إلى الامتناع عن تناول اللحوم والمسكرات وممارسة الزنا. وما إن بلغ سن الثالثة عشر حتى زوجه أهله من فتاة تدعى كاستوربا، ورُزق بأربعة أولاد، لكنه اكتشف بنفسه مساوئ الزواج المبكر، وظل يعارضه حتى آخر حياته.

في سنوات مراهقته وشبابه الأول كان غاندي شهوانيًا للغاية، وحاول التمرد مرارًا على التعاليم الهندوسية، فشرب الخمر وأكل اللحم وسرق السجائر لتدخينها، لكنه شعر بالخزي من سلوكه، وبدأ تدريجيًا بترويض جسده وشهواته، والالتزام بنظام غذائي نباتي صارم، رفض التخلي عنه، حتى وهو في أشد حالات وهنه ومرضه.

سافر غاندي إلى بريطانيا عام 1888 لدراسة القانون، وبعد تخرجه عاد إلى بلده عام 1891، وبدأ بممارسة مهنته، لكن تجاربه الأولى في المحاماة كانت فاشلة. فغادر بعد عامين إلى جنوب أفريقيا للعمل كمستشار قانوني في "ناتال"، وبقي لمدة 22 عامًا. زار خلالها الكثير من الأماكن، وتعرف على أهم شخصيات الجالية الهندية من هندوس ومسلمين وصوفيين ومسيحيين، وخاض أولى تجاربه في الدفاع عن حقوق الهنود المهاجرين، وتنظيم حملات العصيان المدني لإلغاء قوانين التمييز ضدهم، وأنشأ صحيفة "الرأي الهنديّ"، لنشر مبادئ الاحتجاج اللاعُنفي وتوثيق تجاربه.

رجع إلى الهند عام 1915، وقاد المؤتمر الوطني الهندي، وعمل على تنظيم الفلاحين والعمال في عدة حملات وطنية احتجاجًا على الضرائب والتمييز، وطلبًا للاستقلال، كما أسهم بإقامة عدة مزارع جماعية من أجل تشغيل المحتاجين والاكتفاء الذاتي، وشجع على إشراك النساء فيها، وكان من أبرزها، مزرعة إحياء حرفة غزل القطن وإنتاج قماش الخادي بالطرق التقليدية.


عاش غاندي حياة متواضعة في مزارع الاكتفاء الذاتي التي أسهم في تأسيسها ونشرها، وارتدى قماش الخادي الذي كانت تنتجه، ووضع إمكاناته وخبراته في خدمة الآخرين. التزم الصدق، واتبع مبدأ التجريب لاستجلاء الخطأ من الصواب، وجعل من الصيام والإضراب عن الطعام سبيلًا للاحتجاج على الظلم، أو التكفير عن سوء التقدير واتخاذ قرارات خاطئة إزاء القضايا الوطنية. دعا إلى التقارب والتعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الأديان والطوائف، وعلى الرغم من إيمانه الراسخ بالهندوسية فقد عمل على الإصلاح الديني في حدود طائفته، وإبطال العادات التي وجد أنها تتنافى مع الكرامة الإنسانية، مثل عادة النبذ وتزويج الأطفال وتضحية المرأة بنفسها بعد وفاة زوجها، ولم يتراجع عن نشاطه من أجل الإصلاح والتغيير رغم تعرضه للاعتقال عدة مرات في جنوب أفريقيا وفي الهند.

فلسفة نبذ العنف

يقتضي أسلوب "المقاومة السلمية" الذي صاغه غاندي وشرحه  في كتابه "قصة تجاربي مع الحقيقة" أنه بالإمكان هزيمة الاحتلال والاستبداد والفساد، ونيل الحرية والكرامة من دون استخدام القوة والسلاح وإراقة الدماء، إنما بالاعتماد على فلسفة نبذ العنف وكافة أشكال العدوان، وعلى أساس التضافر ما بين نهجين متكاملين، الأول فردي، موجه نحو تقويم النفس البشرية وتطهيرها وإعدادها لخدمة الصالح العام، وهو ما أسماه بـ"الأهيمسا"، وكتب موضحًا: "لقد أثبتت لي خبرتي الراسخة أن الحقيقة هي الإله الواحد. ولرؤية روح الحقيقة السائدة في الكون والمتخللة لكل جنب من جنباته، وجها لوجه، يجب على المرء أن يكون قادرًا على حب أدنى المخلوقات كما يحب نفسه. ولا يمكن لمن يطمح للوصول لتلك الحقيقة أن يعتزل أي مجال من مجالات الحياة. ولهذا دفعني إخلاصي للحقيقة إلى مجال السياسة".

"من المستحيل التوحد مع جميع الكائنات دون تطهير الذات، فلا يمكن أن يدرك الإله صاحب قلب غير طاهر، لكن الطريق إلى تطهير الذات هو طريق شاق، شديد الانحدار. يبدو لي أن قهر الشهوات الكامنة في النفس أشق بكثير من الغزو المادي للعالم بقوة السلاح". "يجب أن أقلل من شأن نفسي إلى لا شيء، فلا خلاص لمن لا يضع نفسه، طواعية، في أدنى منزلة بين غيره من المخلوقات. والأهيمسا هي تجسيد لأقصى حدود التواضع".

أما النهج الثاني فهو نهج جماعي، يقوم على المقاومة بالرفض وعدم التعاون أو "الساتياغراها"، وهي مجموعة من وسائل الاحتجاج السلمية للضغط على الخصم بهدف تحقيق مطالب ومكاسب عامة، مرحلية أو استراتيجية، من هذه الوسائل: الصيام والمقاطعة وعدم الامتثال والاعتصام والعصيان المدني الشامل وعدم الخوف من السجن وتفضيل الموت على الخضوع، ويرى غاندي أن نجاح هذا الأسلوب رهن بما يتمتع به المحتجون من الأخلاق والصدق والمسؤولية الاجتماعية، فمن يتهرب من دفع الضرائب مثلًا لا يحق له أن يحتج لدى زيادة مقدارها. كما يشترط أن يعي المحتجون تمامًا التهديدات والعواقب التي سيتعرضون لها، وأن يستعدوا لمواجهتها بالاعتماد على ذواتهم ومبدأ الاكتفاء الذاتي، وأن لا ينساقوا للاستفزاز والممارسات العدوانية، مهما بلغت حدة عنف الخصوم.

الختام والصدى

أنهى غاندي كتابة سيرته، وتوضيح أسلوبه في المقاومة، وهو في السادسة والعشرين من عمره، واستمر بخوض معاركه السلمية إلى ان أودى بحياته رصاص غادر، أطلقه أحد المتعصبين من أتباع ديانته عام 1948، وتكريمًا له (غاندي) أضحى يوم ميلاده في الثاني من تشرين الثاني يومًا دوليًا للاعنف.

ذهب غاندي ضحية العنف الذي حاربه طيلة حياته، لكنه قبل رحيله كسب العديد من المعارك والكثير من الشرف، وشهد استقلال بلاده، وصاغ نموذجًا فريدًا للمقاومة السلمية، حطم كل مقاييس القوة والجاه والأبهة التي تطبع القادة العسكريين والزعماء السياسيين والروحيين. فهو لم يسعَ إلى السلطة والمناصب والمكاسب والمنابر، لكنه أصبح بأخلاقه وتضحياته قدوة ومرجعية، تتناقلها الاجيال، وتلهم الكثير من الناشطين السلميين، وحركات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في مختلف بقاع العالم. ومنذ بداية الألفية الثالثة بدأ النموذج الغاندي وأسلوب المقاومة السلمية ينتشر في الشرق الأوسط، وأيقظ ثورات الربيع في إيران والعالم العربي لمقاومة الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية الحاكمة، متحديًا العنف الوحشي. 


تهامة الجندي

17 يناير 2021

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟