رواية الذاكرة في أدبيات الربيع العربي.. شهادة على زمن الاستبداد البغيض

إلى روح غسان الجباعي

ليست الذاكرة دخيلة على الأدب، إنها ركيزة الكاتب في بناء عوالمه حتى تلك التي تبدو بعيدة عن الواقع، مُغدِقة بالتهويمات والغرائبية، أو قائمة على الخيال العلمي. لكن اللافت للنظر أن آلية عمل الذاكرة تتبدل وفقًا لأنماط العيش، فالحياة التقليدية المقوّلبة أو المستقرة غالبًا ما تُنتج أدبًا محكومًا بالضوابط والقواعد، في حين أن الأزمنة التي تحفل بالحِراك والمتغيرات تنتج نصوصًا متحررة من الاشتراطات المسبقة، بغض النظر عن تكنيك الكتابة، وجماليات النص واللغة.

كان الحراك السِّلمي من أجل الحريات العامة والدولة الديمقراطية مع بداية "الربيع العربي"، كان واحدًا من أبرز المؤثرات التي أَطلقتْ الذاكرة المكبوتة، وأحدثَت تغيرًا في طبيعة أدائها على مختلف أشكال التعبير، لاسيما تلك الأعمال الأدبية التي صدرتْ بعد عام 2011، وأَلحتْ على كتابة الذاكرة الشخصية من دون مواربة أو تخفٍ، ليس بمعنى المكاشفة والبوح، ولا بغرض سرد السيرة أو تدوين اليوميات والانطباعات الشخصية، بقدر ما هو نوع من المشاركة الوجدانية في الحدث العام، والاعتراض على منظومة التسلُط بمختلف رموزها وتجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

دور الذاكرة في معظم أدب "الربيع العربي"، إن جاز التعبير، تخطى عملية استعادة التراكمات الثقافية والتجارب، الشخصية والعامة، أو الاتكاء على التاريخ والموروث الثقافي، المكتوب والشفوي. لم يعد الكاتب يستعين بالذاكرة ليكتب نصًا سرديًا أو شعريًا، صار يكتب ذاكرته بأدوات النص الأدبي، وأصبحت الذاكرة الشخصية هي متن الحكاية وجسد القصيدة. ذاكرة الطفولة والشباب، السجن والمنفى، الرغبة والكبت، الحب والفقد، وكل تفاصيل الحياة الأخرى.

الذاكرة باعتبارها كيان فاعل، وليست مجرد مستودع للذكريات. والذاكرة بمفهومها الواسع، بما هي خليط من مجموع ذواكر الحواس والجسد والأخيلة والوعي، ذات الأثر في استقبال العالم وإدراكه، وفي بناء العلاقات الإنسانية والقيم الناظمة. والذاكرة بما تعنيه من امتزاج الذاكرة الفردية بذاكرة المكان والجماعة عبر المعايشة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية في إطار البيئة التي يتحرك ضمنها الكاتب. والذاكرة بوصفها مختبر التفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وليست محض استعادة للتجارب السابقة والتاريخ.

لم تعد الذاكرة أشبه بمعطى ناجز، يُستفاد من بعض جوانبه لبلورة عالم مُتخيَّل ومحكوم بقواعد الكتابة الأدبية، ينطلق من أنا الكاتب ومزاجه، ويصب في خدمة مشروعه الشخصي. بات حضور الذاكرة هو النص، وهو من يملي على الكاتب تفاصيل السرد والتخييل والصور الشعرية في فضاء عام من الوقائع والأمكنة والشخصيات الحقيقية، لكل منها ذاكرته الخاصة. وأصبحت حركة الذاكرة واشتباكها بالذواكر الأخرى هي بؤرة تفريع الحدث وظهور الشخصيات وتشعب المسارات والانتقال بين الأزمنة والأمكنة.

حركة الذاكرة في النص لم تعد تسعى نحو الماضي، ولا تنظر إليه بعين الرضا والحنين. إنها حركة أقرب إلى الهدم وإعادة البناء، وأشبه بعملية الحفر والتنقيب في خزين الوعي واللاوعي ومساربه المتعددة، عملية تنطلق من اللحظة الراهنة، وتتوخى التأمل والتحليل والاكتشاف وإعادة التفكير في التجارب والقناعات السابقة برؤية انتقادية تصل أحيانًا حد التهكم والسخرية السوداء، حتى من شخص الكاتب نفسه. وهو المقصود مجازًا بـ "رواية الذاكرة" كاصطلاح لا يحمل دلالة التصنيف، ولا يقصد الجنس الروائي بحد ذاته، بقدر ما يشير إلى تجربة جديدة ورؤية خاصة في كتابة الذاكرة.

ليس لـ "رواية الذاكرة" أشكال وقواعد ثابتة، الذاكرة هي التي تقترح الأسلوب الأنسب في الكتابة، فقد تأخذ صيغة جمع أقوال الشهود وإعادة سردها أدبيًا، كما في كتاب "موت الأبد السوري، شهادات جيل الصمت والثورة" (2012) لـ محمد أبي سمرا. أو تكتفي باستعادة تجربة الاعتقال الشخصية، وتأمل ارتداداتها على دواخل الضحايا في "حجر الذاكرة، بعض من جحيم السجون السورية" (2018) لـ بسام يوسف.

قد تتكئ على ذاكرة المِخيال الأدبي وأدب الفانتازيا للتعبير عن واقع القتل المجاني والمجازر الجماعية مثل رواية "فرانكشتاين في بغداد" (2013) لـ أحمد سعداوي، أو المجموعة القصصية "مزهرية من مجزرة" (2014) لـ مصطفى تاج الدين الموسى. وربما توغل في اللامعقول لتصوغ أسئلة الكتابة وتداعيات القمع على السوريين في رواية "قمل العانة" (2020) لـ غسان الجباعي. أو لعلَّها تتقمص الميثولوجيا لتعيد تشكيل التراجيديا السورية في قصيدة نوري الجراح الطويلة "يأس نوح" (2013)، أو مجموعة أمجد ناصر "مملكة آدم" (2019). وصولًا إلى كل ما تقترحه الذاكرة من تنويعات ونصوص أدبية.

هل نحن أمام نوع جديد من الكتابة؟ ربما، لكن ظهور هذا النوع سبق "الربيع العربي" بسنوات، كصدور رواية "الخبز الحافي" لـ محمد شكري عام (1982)، و"القوقعة: يوميات متلصص" لـ مصطفى خليفة عام (2008)، مع العلم أن تاريخ الإصدار تأخر عن زمن كتابة الروايتين نتيجة الرقابة على المصنفات الأدبية. كما أن مختلف مناطق العالم شهدت حضور "رواية الذاكرة"، خصوصًا في فترات التحولات والحروب، وقسط لا بأس به من تلك النصوص تُرجم إلى اللغة العربية لا سيما في العقد الأخير. وفي كل الأحوال يبقى استمرار هذا النوع من الكتابة وانتشاره في العالم العربي رهن بمدى اتساع حرية التعبير، وبمدى استعداد القراء والنقاد لقبوله والاعتراف به.

هل استطاعت "رواية الذاكرة" أن تبني ملامحها الخاصة عبر عقد من الزمن، وما هي أوجه الاختلاف والتشابه في تجلياتها المختلفة؟

لو استعدنا عينة عشوائية من نصوص الذاكرة التي صدرت بعد انطلاق "الربيع العربي"، روايات وقصص قصيرة ومجموعات شعرية وسير ذاتية وترجمات، بتوقيع كتَّاب وكاتبات من سوريا ومصر ولبنان، سوف نلاحظ أن رواة الذاكرة، ينتمون إلى بيئات اجتماعية متفاوتة ومشارب ثقافية مختلفة، من الأقليات الدينية والإتنية ومن الأكثرية، يعيشون في بلدانهم أو في المنافي والمهاجر، وبعضهم من المعتقلين السابقين. وأعمالهم الأدبية تتباين من حيث موقع الكاتب وأثر الذاكرة على نصه، بمعنى هل الكاتب مشارك في إنتاج الحدث العام، أم مجرد مُستَقبِل ومراقب لتتابع الأحداث؟ وهل الذاكرة مباشرة أم مستترة بحبكة روائية أم نقلًا عن شهود؟ هل هي ذاكرة شخصية أم خليط من الذاكرات، بما في ذلك ذاكرة الوثائق والكتب والإعلام؟ وما هي تفاصيل هذه الذاكرة وسمات النص الذي تنجزه؟

وبعض النظر عن اختلاف المرجعيات وسمات المنجز الأدبي، فمن اللافت أن التجارب تتقاطع بالعديد من القواسم فيما بينها. جميعها يوحي بالتحرر من ذلك الشرطي الذي كان يجلس في ذهن الكاتب، ويملي عليه الحدود التي تجعل النص قابلًا لعبور الرقابات، وجميعها لا يحتفي بالأبطال، ولا يدعي البطولات، بقدر ما يحاول التغلغل في دواخل النفس البشرية وسط متاهات القمع والفساد والتهميش.

ثمة رغبة في وضع الممنوع والمسكوت عنه تحت المجهر، ليس من موقع المثاقفة والتنظير بل دفاعًا عن حرية الفكر والتعبير، وثمة تداخل واشتباك بين الخاص والعام مع الحفاظ على الفردانية. ذات المؤلف تحضر أحيانًا وتغيب غالبًا في النسيج الاجتماعي الذي يغلي ويفور في داخله ومن حوله، واللغة تخرج من قلب الحدث الساخن، تحاور ذاكرة المكان، تتأمل الخوف وغربة الروح والرغبة بالانعتاق، تستنطق الألم والأحلام والكوابيس، تحتج على انتهاك الحقوق وهدر الكرامات، وتفتح باب المسائلة على مداه.

رواية الذاكرة التي وُلدت من رحم "الربيع العربي" هي أشبه بكتابة تاريخ مختلف عن التاريخ الرسمي، وصياغة رؤية إنسانية مشتركة متحررة من سطوة اللون الواحد، ومختلف العصبيات والتحيزات التي سادت العالم العربي، رؤية ثقافية جديدة أساسها مفهوم المواطنة والمجتمع المدني. إنها شهادة على زمن الاستبداد البغيض، وإعلان البراءة منه.


تهامة الجندي

صوفيا 16 أبريل 2022

تعليقات

الأكثر قراءة

لولو

حسين العودات.. رحلة القلق والأمل

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق