الطريق إلى متحف الآثام لـ علي سفر.. ذاكرة الدم والدموع


 "أنا التُّراب المعْجون بِالدَّم البَهي، أنا ما بقي من وجهٍ أَخَذت نِصْفَه القذيفة، أنا نِتْفُ جسدٍ سهتْ عنها عيون وأيدي القبَّعات البيض، أنا عَين تَتبُّع سقوط البِرْميل" يكتب علي سفر في مجموعته الشعرية "الطريق إلى متحف الآثام" التي صدرت حديثًا عن دار المُحرِّر في القاهرة.

يكتب علي عن الموت الذي يخطف السوريين منذ اثني عشرة عامًا وعن الكوابيس التي تملأ ليلهم الطويل. يكتب الغائب بضمير "الأنا" ويكتب أناه بضمير الجموع، يكتب بعين شاعر يدرك جمال الضحية وسط ركام الخرائب والوجع، وقلب عاشق يود أن يفعل ما بوسعه لإنقاذ الحبيبة من حضن الوحش: "أنا دُموع انسلَّت إثر صور القتلى في الطريق من الغُوطة إلى الشِّمال، أنا مشافي حلب... أنا اصطِدام الحديد بالحديد في فرع الـ 215 ... أنا ثياب العيد على جسد أطفال استشهدوا في الزَّاهرة، أنا الموتى في تُربَة اليرموك وقد نَبشَت القذائف قُبورهم".

شذرات من صور تصوغ ذاكرة الشاعر وتحاصرها، تضيئ وتنطفئ، تلقي بحمولتها على الصفحات، وتصبغ الأبيض بلون الدماء، دماء القتلى بالبراميل المتفجرة، ودماء المعتقلين تحت سياط الجلاد وأدوات التعذيب، لكن صور الموت لا تجرح الشعر، ولا تتجاهل قواعده، بل تحافظ ما استطاعت على نعومة اللمسة في التقاط الفجيعة، وتضفي على المبنى معانٍ متعددة الطبقات وإيقاعات غير متوقعة، تزيد القصيدة رهافةً وعمقًا وموسيقى داخلية: "وسألَني عن الموتِ، فَقُلت: لم أفكِّر فيه بِما يكفي لِأفْهَمه../ وسألَني أين سأنْتَهي، فَقُلت: هذه الطريق لا تنتهي../ وسألَني عن الشَّاهدة،/ قلت: بيضاء مثل قلب،/ شاخِصة كَطائِر لا يُدرِك الجهات.."

ذاكرة تشبه الألغام والقنابل الموقوتة، تشطر العالم في قلب القصيدة إلى اثنين، أوله في البلد المُستباح وطرفه الآخر في المنفى، وبين الشطرين مرآة مهشَّمة تعكس قوافل الموتى بكل الأشكال والصور، حتى تلك التي حملتها قوارب النجاة "بِانْتظار الثلج في إِسْطَنبول، يَمُوت طفل في مياه تعلو فوق أنفاسه وصورة أمه التي أهْدَتْها السماء برميلًا وركامًا".

ذاكرة واحدة تجمعنا نحن السوريين في بلدنا وفي دول الشتات، مفرداتها المجازر والمقابر الجماعية، الموت بالتعذيب وبالكيماوي، الحصار والتجويع، اختفاء من نحب وجثامين من فقدناهم، مخيمات النازحين والاتجار باللاجئين، العوز والمرض وحرمان الطفولة من التعليم، ذاكرتنا التي تتسرب إلى نومنا كوابيسًا توقظنا ونحن نصرخ ونلهث ونبكي "لا يَعلَم عند أيِّ حاجز تَوقَّف/ أو بين يدي أي شبيح كان يَتَلقَّى الصَّفعات أو اللَّكمات/ أو أمام أي مُحِّقق كان يَرتَجِف../ حينما أيْقظَتْه زوْجته../ شربَ جَرعَة من الماء.. قرأ المعوذات../ بعد أن قضى آخر لحظات نَومِه في الصُّراخ". 

ذاكرة واحدة من دم ودموع صَوَّرتها آلاف السرديات، ولكل جسد طريقته بالنزف والبكاء، ولكل كاتب نصيبه من المأساة والوجع، وأسلوبه في وصف المشنقة التي لَفَّها نظام الأسد حول أعناق السوريين، قبل أن يُطبق الحبل ويتدلى الجسد، أو تحدث المعجزة "صدمةٌ من حَياة سابقة/ جرح أو نَدْبة، وربما طعنة/ بعض ما أصابنا/ في الطريق إلى مُتحَف آثامِنا".

ذاكرة ليست للنسيان، وُلدنا في زمن الديكتاتور، وعشنا نشهد موتنا البطيء واغتيالنا واعتقالنا وتهجيرنا. في الحقيقة نحن لا نكتب نحن ننزف وننتحب ونتفجر بانتظار لحظة الخلاص ورؤية سوريا الحرة، المعافاة، والشاعر علي سفر كتب الذاكرة والوعد بألوان روحه وبصمة حزنه العميق، الأصيل الذي يأسر القلب والحواس "سنلتقط الأنفاس.. فطريق الشَّام مازال طويلًا.. وبعيدًا.. وما لَنا فيها وَمِن أَجلِها سِوى أن نَعُود..".

تهامة الجندي

نشر في موقع غودريدز 25 ديسمبر 2023

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عدنان الزراعي.. في انتظار وعد السراب

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟