حصاد الأدب العربي في اللغة البلغارية.. عناوين خجولة تتقدمها قافلة العطش

ما هو نصيب الإصدارات العربية من اهتمام القراء ودور النشر في بلغاريا؟ سؤال بدأ يلح عليَّ، بعد أن قضيت نصف نهاري في واحدة من أحدث وأهم المكتبات في صوفيا، ولم أعثر على أي من أسماء كتَّاب العالم العربي، مع أن أجنحة المكتبة ورفوفها التخصصية، تزخر بالكتب المُترجمة عن اللغات الأجنبية، وتشير إلى أن العاصمة التي تقع على مفترق طرق، يربط أوروبا بالشرق، تشهد حراكًا ملحوظًا على مستوى النشر والترجمة.

أين نحن من هذا الحراك؟ لم تجب عن سؤالي لا المكتبات الأخرى التي دخلتها، ولا حواراتي مع معارفي البلغار أو السوريين، لكن وفق معلومات الشبكة العنكبوتية، تبيَّنَ لي أنَّ عدد دور النشر المُسجَّلة رسميًا في بلغاريا خلال العقدين الأخيرين، بلغ حوالي ألفين وخمسمئة دار، سبعون منها فقط يعمل بشكل فعلي ومنتظم، وينتج ما بين ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف عنوان في العام، تعادل الترجمات قرابة ربع إصداراتها السنوية، وعلى الأغلب هي عن اللغات: الإنكليزية ثم الألمانية فالروسية والفرنسية، وقد أسهمت ثلاث وعشرون دار نشر بإصدار مجموعة قليلة من العناوين العربية المترجمة إلى اللغة البلغارية. 

على صفحات الإنترنت أيضًا عثرتُ على دراسة قيِّمة بعنوان "الترجمات من العربية إلى البلغارية بين 1990-2010"، أَعدتّْها المستعربة البلغارية نِدليا كيتيفا باللغة الإنكليزية، تفيد بأنه وفقًا لمعطيات المكتبة الوطنية في صوفيا "كيريل إي ميتودي" لم تتجاوز حصيلة الترجمات العربية إلى البلغارية التسعين إصدارًا في الفترة المذكورة، وهو رقم ضئيل جدًا، إذا ما قورن بالترجمات عن اللغات الأجنبية الأخرى، وتُرجع الباحثة هذا النقص إلى غياب الدعم والتمويل من قبل المؤسسات المعنية، وإلى غياب الأطر والمشاريع الاستراتيجية لنشر الثقافة العربية، التي كان من المفترض، أن تتولاها السفارات العربية الإحدى عشر الموجودة في صوفيا، إذ حظي ثمانية بالمئة فقط من مجمل الترجمات على الدعم المالي، بينما صدرت البقية بجهود فردية.

تشير الدراسة إلى أن ثمانية وخمسين من الإصدارات تُرجمت عن أصولها العربية، والباقي عن لغات أجنبية وسيطة في مقدمتها الإنكليزية والفرنسية، وأن تسعًا وعشرين مؤسسة ودار نشر بلغارية، أسهمت في طباعة هذه الترجمات، التي يمكن فرزها في ثلاثة محاور أساسية: أولها المحور الديني، ثم الأدب، فالدراسات الاجتماعية والإنسانية، وهذه الأخيرة تقتصر على ستة عناوين فقط.

فيما يتعلق بالإصدارات المترجمة عن أصولها العربية، تبلغ الكتب الدينية ثمانية وعشرين إصدارًا، بينها ترجمات "القرآن الكريم"، و"الأحاديث النبوية الشريفة"، و"حكمة علي بني أبي طالب"، بعدها يأتي محور الأدب ويبلغ اثني وعشرين عنوانًا، نصيب التراثيات منها ثلاث مؤلفات، هي: "ألف ليلة وليلة". "كليلة ودمنة" لابن المقفع, و"حي بن يقظان" لابن الطفيل. أمَّا النصوص المعاصرة فهي اثنا عشرة كتابًا لمؤلفين من لبنان وفلسطين وسوريا والأردن وليبيا، من بينها "عودة النبي" لجبران خليل جبران، "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش، ومجموعتين قصصيتين تضمان مختارات من: أمين الريحاني، سميرة عزام، غادة السمان، إيملي نصر الله، ونجيب محفوظ، وهناك سبع ترجمات شعرية لسعاد الصباح وأحمد سليمان الأحمد، وخالد درويش وغيرهم، إضافة إلى مسرحية "القادمون الجدد" لعلي عقلة عرسان.

في المقابل يبلغ مجموع الترجمات الأدبية عبر اللغات الوسيطة، الإنكليزية والفرنسية، اثني وثلاثين إصدارًا، وهي تختص بالروايات العربية المعاصرة، التي كتبها مؤلفوها بلغة أجنبية، أو تلك التي حازت على جوائز مرموقة، من مثال: "صخرة طانيوس" لأمين معلوف، "الخبز الحافي" لمحمد شكري، "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، و"واحة الغروب" لبهاء طاهر. وتضيف كتييفا إلى هذه القائمة مجموعة الترجمات المنشورة في الدوريات البلغارية، أو المواقع الإلكترونية لبعض نصوص أدونيس وأحمد العجمي وزكريا تامر. وفي السياق تلاحظ الباحثة، أن أغلب قراء الأدب العربي المُترجم إلى البلغارية، هم من المستعربين والمستشرقين، أو الذين ينحدرون من أصول عربية.

تتبعي للجداول المرفقة بالدراسة، لفتَ انتباهي إلى تباين وتائر ترجمة المؤلفات العربية إلى البلغارية من عام لآخر، ما يعني أنها لا تخضع لخطة مسبقة، وحسب الجداول أعلى وتيرة وصلتها الترجمات خلال السنوات العشرين الماضية، حصلت عام 1999، حيث بلغت ثمانية إصدارات، ثم في عام 2006 بلغت ستة إصدارات، عدا ذلك فإن المعدل الوسطي يتراوح بين إصدار أو اثنين في العام، بما في ذلك حين يتعلق الأمر بإعادة طبع بعض الكتب التراثية أو الدينية، وهناك سنوات لم تصدر فيها أية ترجمة على الإطلاق. كما لاحظتُ أن أغلب العناوين المترجمة تخضع لأهواء شخصية، أكثر من خدمتها لمشروع ثقافي متبادل، وأن اثني عشر عنوانًا من عناوين العقد الأخير، يحمل توقيع أقلام نسائية كفاطمة المرنيسي، فاديا فقير، نورما خوري ورانيا الباز.

وبالنظر إلى كل تلك المعطيات، لا يمكن تجاهل صدور الترجمة البلغارية للمجموعة القصصية "قافلة العطش"، "Керванът на жаждата" أواخر عام 2014، بجهد الكاتب والمترجم الفلسطيني خيري حمدان[1]، الذي يقيم ويعمل في بلغاريا منذ ثلاثة عقود. المجموعة من تأليف الأديبة الفلسطينية الأردنية سناء شعلان، تضم ست عشرة قصة قصيرة، صدرت بطبعتها العربية عن مؤسسة الوراق عام 2006، وهي أول مجموعة قصصية، تُترجم كاملة من العربية إلى البلغارية، أصدرتها مطبعة الفنار بعمَّان، في ست وتسعين صفحة من القطع المتوسط.

موضوعات "قافلة العطش" مقطوفة من قاموس الحب المقموع والعُذري، وشخصياتها من الناس المتيَّمين، لكن أغلب القصص لا تأبه بمجريات الواقع، بقدر ما تستلهم عوالم الأسطورة والخرافة، لتوصيف فضاء الرغبة المكبوتة، وإيجاد معادلات سردية لها، تفتح الباب على غرائبية المشهد، ودفق المشاعر الداخلية. ففي "رسالة إلى الإله" تُكاتب المرأة الوحيدة الإله زيوس حانقة عليه، لأنه تركها تقضي حياتها بلا رجل. وعلى أعتاب "سبيل الحوريات" يهيم الرسَّام بعذراء مجنونة، تتعرى كلَّما غضبت. وفي "تيتا" غجرية من قبائل البورورو، تسحر بعينيها الجميلتين طبيبًا أجنبيًا يعمل في جنوب نيجيريا. وفي "الرصد" يعشق الرجل الفقير جِنيَّة تحرس كنوز الكهف الملعون.

من قصة "رسالة إلى الإله" نقرأ: "قليلٌ هم من يجرؤون على  السخط على الإله، لكنها  سخطْتْ عليه. نعم هي ساخطة على زيوس الإله الأكبر الذي ينصرف إلى المتعة والشهوة والحب والسعادة، وينسى أنَّ له رعيِّة شقية، فينساها هي بالذات، لقد تضرَّعتْ إليه طويلاً، وإلى ابنته إلهة الجمال إفروديتي، وإلى إله الحب كيوبيد، كي يهبوها حبًا واحدًا فقط، لكن الآلهة صمَّت آذانها دون اشتياقها وآلامها ورجاءاتها. لماذا هي مسجونة في هذا الجسد الأنثوي البغيض؟ تريد أن تتحرر، تتمنى لحظة حب واحدة، أهذا كثير على إله السماء؟! أكثيرٌ أن تتمنى رجلاً يحبها دون نساء الأرض؟".

ومن قصة "قافلة العطش" المقطع التالي: "كانت قافلة عطشى إلى الحب، ومطعونة  في كرامتها على يديّ مهرتها الجميلة، هذه المرّة لم تدفن الرّمال حكايتها في جوفها الجافّ، بل أذاعتها في كلِّ الصحراء، شعرتْ القافلة بأنَّها محمَّلة دون إرادتها بالعطش، العطش إلى الحب والعشق، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على أن يُصرِّح بعطشه. عند أول واحة سرابيّة ذبح الرجال الكثير من نسائهم، اللواتي رأوا في عيونهنَّ واحاتٍ عطشى، وعندما وصلوا إلى مضاربهم، وأدوا طفلاتهم الصغيرات؛ خوفًا من أن يضعفن يومًا أمام عطشهنّ، وفي المساء شهد رجال القبيلة بكائيّة حزينة، فقد كانوا هم الآخرون عطشى".

حين التقيت خيري حمدان في صوفيا، سألته: لماذا حظيت "قافلة العطش" بالترجمة إلى البلغارية دون سواها من المجموعات القصصية؟ أجابني: هي المصادفة، لم أكن أعرف السيدة سناء شعلان، ولم أكن قرأتُ لها شيئًا، قبل أن يعرض عليَّ صديقي صالح حمدان، أن أسهم في ترجمة مجموعتها، وحين قرأتها، وجدت أنها تقدِّم صورة عن المرأة الشرقية من خلال قصصها التي هي أقرب إلى البوح، وجدت نوعًا من الهروب إلى عالم السحر والتخييل لتحقيق مآرب المرأة، وهو تخييل جميل وجرئ، وبدأت بالترجمة، حتى قبل أن نتفق على التفاصيل.

*وكيف استُقبلت "قافلة العطش" في بلغاريا؟

**دعوّْنا الأديبة إلى صوفيا، وكان لحضورها، والتعريف بها في الأوساط الثقافية وقع جميل، حيث قامت مؤسسة "بيت العصافير"، ثم مؤسسة "الهجرة الدولية" باستضافة حفلي توقيع مجموعتها المترجمة، بمشاركة رئيس نادي خريجي الجامعات البلغارية في الأردن، الناشر حيدر إبراهيم مصطفى، وبحضور حشد كبير من المستشرقين والأدباء والإعلاميين والمهتمين، فضلاً عن عدد من العاملين في السلك الدبلوماسي. وقد قدَّمت الإعلامية البلغارية "سيلفيا تشوليفا"، قراءة نقديّة في المجموعة، بينما قرأت المستشرقة الروسية "ألفتيتا ستويانوفا" بعض قصص المجموعة، التي أثارت الكثير من أسئلة الجمهور حول خصوصية النصوص، ومقاصد المؤلفة، وواقع المرأة العربية، بعدها قامت سناء بإهداء مجموعتها لكل الراغبين باقتنائها، وبلغ مجموع ما وزعناه بالمجان على الحضور قرابة خمسمئة نسخة.

يضيف حمدان: أنا راضٍ عن جهدي، ومشروعي مستمر، بصدد ترجمة مجموعتين قصصيتين للعام القادم، الأولى لمحمود الريماوي، ستصدر خلال أيار المقبل، والثانية لجمال ناجي، ستصدر في أيلول 2015. كنت أود لو أُترجم الكتَّاب السوريين واللبنانيين، لكن الذي جعلني أتوقف عند الأدب الأردني الفلسطيني، هو معرفتي الشخصية بالأدباء وتواصلي معهم. هناك آلاف الكتَّاب العرب ممن يستحقون الترجمة، لكن هذا يحتاج إلى جهد مؤطر ودعم مالي، وأنا لم أحصل على شيء لقاء الترجمة، بل تكبدتُ الكثير من العناء.

وتقول سناء شعلان لدى إشهار مجموعتها في العاصمة البلغارية: "أنا فخورة بترجمة مجموعتي القصصية إلى البلغارية، لاسيما أنني أؤمن بأنَّ الأدب، هو من أنجع الوسائل للتواصل بين البشر، ونبذ الخلاف والتطاحن الذي بات يهدِّد البشرية بالفناء والانقراض. نحن الآن نعيش مأساة بشرية، حيث الحرب في كل مكان، ولابد أن والِدانا آدم وأمنا حواء، يشعران بالعار من سلوكنا البشريّ المشين، حان الوقت كي يمسك الإنسان بيد أخيه الإنسان، وأن تخطو الإنسانيّة خطوتها الشّريفة المصيريّة نحو السلام، على أن لا يؤثر ذلك على استرداد كل ذي حق لحقه"

تهامة الجندي
القدس العربي 3 يونيو 2015 الرابط



[1] خيري حمدان كاتب ومترجم فلسطيني، ولُد في دير شرف/ الضفة الغربية عام 1962، حصل على ماجستير الهندسة الالكترونية في صوفيا عام 1989، حيث لا يزال يقيم ويعمل من ذاك الحين، صدرت له الكثير من المؤلفات والترجمات والمقالات باللغتين العربية والبلغارية.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

الحرية للشاعر المعتقل ناصر بندق

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟