ثورات بلا ثوّار لـ فواز طرابلسي.. الشعب مصدر الشرعية والسلطة

ماذا تعني "الثورات العربية" بمستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما هي مفاعيل العنف وتبعاته، وما هو دور اليسار والعروبة في خضم المرحلة الراهنة؟ أسئلة كثيرة من هذا المنحى الإشكالي الشائك، يطرحها ويجيب عنها كتاب الباحث اللبناني فواز طرابلسي "ثورات بلا ثوّار"، وحتى لا يلتبس العنوان على القارئ، ويبدو وكأنه انحياز ضد الصيرورة الثورية، يوضح المؤلف منذ المقدّمة، أنه يعني به "ثورات بلا تنظيم"، فهي التعبير الأصدق عن اندلاع الغضب والوجع والرفض الذي راكمته الجماهير ضد أنظمتها الاستبدادية الفاسدة، عبر أربعة أو خمسة عقود من الزمن. 

يتألف الكتاب من قسمين، الأول يضم خمس دراسات تتأمل في واقع الثورات العربية، الحرب الأهلية، الأيديولوجيا القومية واليسار العربي، أما القسم الثاني فهو مجموعة من المتابعات التحليلية للحدث السياسي الأبرز في المنطقة العربية خلال العامين المنصرمين، كدخول عناصر من حزب الله إلى سوريا، للقتال إلى جانب نظام الأسد.

في معرض بحثه يعترض المؤلف على تسمية "الربيع العربي" التي أطلقتها الصحافة الغربية، وتلقّفها الصحفيون والمثقفون العرب، لأن التسمية تحيلنا إلى مرجعيات أوربية من زمن تأسيس الجمهوريات الديمقراطية، أو التمرد على النظم الشيوعية، ولأنها توحي بحدث طبيعي دوري، يمكن أن يتبعه خريف الثورات أو شتائها، في حين أن ما تشهده المنطقة العربية، هو حدث استثنائي بكل المعايير، فالثورات العربية "هي مسار جوفي للتعبير عن استحالتين"، استحالة استمرار النظام الحاكم، واستحالة أن يستمر المحكومين في تحمله، أو الاستحالتين معا، ولا يقتصر المسار على السياسة فقط، بل يتعداه إلى كل بنى السلطة والمجتمع، التي تعاني من خلل بنيوي مؤسساتي في طريقة عملها، يستدعي التغيير الجذري.

في هذا الخضم العاصف يلحظ المؤلف تعارضا داخل القوى الثورية نفسها، التي تتشكل من قوى متضاربة من حيث الأهداف والتمثيل: قوى مدنية حداثية، تسعى لدولة القانون والحريات المدنية، تقابلها تيارات مختلفة من الإسلام السياسي، تسعى لاستبدال النظام الحاكم بمؤسسات قائمة على الشريعة. ما يعني ان المسار الثوري سوف يستغرق أمدا طويلا، ويتشعب في اتجاهات عدة، إلى أن يصل مرحلة الحسم والتحول النوعي.

تتخذ الثورة شكل انتفاضة جماهيرية حاشدة، في وجه النظام القائم، تبدأ بالمطالبة بالإصلاحات، وتتجذر في مهمة إسقاط النظام بناء على تعنته، وبذلك تنتقل من حركات ضغط جماهيرية إلى ثورة، وغالبا ما تلجأ إلى العنف المسلّح، ردا على تصاعد قمع أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، وهكذا ينتهي الأمر إلى الانقسام والاحتراب الأهلي بين معسكرين مسلّحين، وتتوقف النتائج على كيفية انتهاء القتال، والطرف المنتصر، أو التسوية بين طرفي الصراع، وفي كل الأحوال فإن العنف المتبادل يترك آثاره المدمّرة على البلد، وعلى المشروع الثوري برمته، سيما فيما يخص التدخل الأجنبي الذي تستدعيه الثورات عادة، ناهيك عن أن الثورات قد تفشل، وينتصر عليها النظام الذي تحاول إسقاطه، أو أنها تعجز عن تحقيق أهدافها، فمخاض التغيير طويل وعسير، وقد يستغرق عدة جولات.

يرصد المؤلف عدة متغيرات أحدثها المسار الثوري، أولها إعادة الاعتبار إلى تعيين المنطقة بوصفها عربية، مقابل الشرق أوسطية، أو كونها جزء من العالم الإسلامي، حيث الحديث عن "الثورات العربية" و"الربيع العربي"، كما أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" أعاد الاعتبار إلى الشعب بوصفه الهوية الرئيسية للسكان، مقابل التعريفات الإثنية والطائفية والمذهبية والأقلوية (واحد، واحد، الشعب السوري واحد)، وبوصف الشعب مصدر السلطة محل الشرعيات السابقة: الشرعية- القبلية السلالية، والشرعية-العسكرية العقائدية.

في السياق يوجه الباحث نقده لليسار العربي، فكرا وممارسة، ويعتبر أن أطره التقليدية، باتت عقيمة، ويرى أن اليساري هو من يربط بين قيمتي الحرية والمساواة، أي تحرير الديمقراطية من سطوة رأس المال، وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق حل التناقض بين المساواة السياسية بين المواطنين في الدولة، واللامساواة بينهم في المجتمع، الناجمة عن الفوارق والامتيازات الطبقية، كما يلاحظ أن ثمة وجه آخر للعولمة، أفرز أنماطا جديدة من التضامن والترابط الأممي، تقوم على التقاء مصالح المتضرّرين من الإمبريالية العالمية، واحتكار الشركات العابرة للجنسيات.

كذلك ينتقد الكاتب الأحزاب القومية، كونها طرحت مبدأ الوحدة التعسفية مقابل التجزئة، والماضي المجيد، لردم هوة الحاضر المتخلف، فالعروبة بعض النظر عن واقع الوحدة أو الانقسام، هي الرابطة القومية الموضوعية، التي تجمع سكان العالم العربي، على أرض ولغة وثقافة واحدة وتاريخ مشترك، وهي ليست محض ثقافية، كما يجري الترويج لها، إنما تفترض إعادة الاعتبار للحامل الاقتصادي، من خلال التبادل الاقتصادي والتجاري، وسيطرة المنطقة على مواردها وثرواتها الطبيعية، وإعادة الاعتبار إلى قيمة العمل، بدل قيم الاستهلاك السائدة.

 

بيروت: تهامة الجندي

نُشر في صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ


*"ثورات بلا ثوّار" دراسة في 421 صفحة قطع كبير، المؤلف: فواز طرابلسي، الناشر: رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2014.

تعليقات

الأكثر قراءة

ردود دولية على اتهام الأونروا بالضلوع في هجوم 7 أكتوبر

حملة التضامن مع إدلب وبريتا حاجي حسن

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟