صانع الألعاب لـ أحمد محسن.. السياسة تجارة وقودها الجماهير

"هذا عصر اللاعبين لا عصر الكتَّاب، والتلفزيون هو الأب الفعلي لنجوم الحداثة، إن كانوا رؤوس حربة في فرقهم الأوروبية، أو أمناء عامين في أحزاب شرقية حديدية حتى العظم". هكذا يرسم أحمد محسن حدود الفضاء العام في روايته الأولى "صانع الألعاب"[1]، حيث يبدو العالم أشبه بساحة لعب، والحياة كرة يتقاذفها اللاعبون، بينما تمتلئ الأطراف بحشود المتفرجين، الذين ينقسمون بين مؤيد ومعارض، ويهلِّلون لصاحب الضربة الأقوى.

تشبيه مثير للدهشة، ينسج خيوطه المؤلف بإتقان عبر تفاصيل المتن الروائي، التي تعقد المقارنة بشكل رئيسي بين ملعب كرة القدم ونجم فريق برشلونة رونالدينهو، وبين ملعب السياسية وأيقونة الأمين العام حسن نصر الله، من دون أن تخفي انحيازها للملعب الأول ونجومه الساحرين، بينما تبرز في الهامش ساحات أخرى للعب: واحدة للفقر والجريمة، وأخرى للحب والشذوذ الجنسي، وثالثة للحروب والقتل والأحزاب، وفي كل الملاعب يختلط الواقع بالذاكرة الثقافية، فيغدو النص الفالت من عقال التسميات حافلًا بالأسماء والاقتباسات، التي تضفي رونقها الخاص على كامل اللعبة، "دانتي... صاحب (الكوميديا الإلهية) تلقف مأساتنا باكرًا، نحن نضحك عجزًا، جميعنا آلهة زائفة" (ص78).

ساحات يرصفها المؤلف لبنة، لبنة، تجمع قصص اللاعبين في تداعيات ومشاهد معنونة، لا تنتظم بزمن متسلسل، ولا يتضح الرابط بينها إلَّا في المشهد الأخير. مَشاهد يسرد أحداثها الراوي بضمير المتكلم، ومع ذلك فهو يسلك سلوك السارد الخارجي، حين يعاين الحدث عن بعد، يصفه، يحلّله، يعلق عليه، حتى وإن كان الحدث شخصيًا، ما يضفي على الرواية نزعة تأملية، تارة تسري بها روح السخرية السوداء، وأخرى الفلسفة: "في لبنان نتعلم الحقد كما نتعلم الرياضيات" (ص23). "جيلنا ليس جيل فرح، أُجبرنا تدريجيًا على لصق صور القادة في مرايا لم نخترها" (ص32).

تبدأ الرواية من الراوي أحمد، وهو يسجل أهدافه الثلاثة في ملعب "نجمة الصحراء" في سن الفيل، أيام فتوته، حين كان يحوز على لقب "صانع الألعاب" في ملعب "الراية". و"من يلعب في هذا الموقع، يلعب في كلِّ المواقع، حتى خارج الملعب. يجمع اللاعبين على خط واحد، كأنَّه نور يمشون خلفه. يوزِّع الأدوار على الأوركسترا". ومنذ تلك البداية تبدأ لعبة التماهي بين الكاتب والراوي، وبين لاعب كرة القدم والسياسي، تبدأ لعبة الاستعارة والترميز، تنكشف الملاعب، ويتقدم لاعبون من كل الأصناف، تتفاوت لغة السرد ما بين الواقعية التهكمية المباشرة، والشعرية الحزينة، لكنها في أغلب الحالات تتكئ على مفردات الملعب وتعبيراته، من الركل إلى السقوط، المرمى، الدفاع، الهجوم والضربة القاضية. 

 أحمد الراوي وبطل الرواية، ابن ضاحية بيروت الجنوبية، الذي تربَّى "على الأساطير، والواقع محكوم بالمؤامرات الكبرى"، وكان يخشى الجنرال ميشيل عون في طفولته، لأن "الجنرال هو الرعب الذي تصنعه الجيوش". أحمد هجر الكرة ذات يوم، دخل الجامعة، وأصبح يتقن لعبة الكتابة في ملعب المثقفين، وجميع الملاعب تحتاج إلى جمهور، و"السياسة تجارة وقودها الجماهير" (ص120). إنه واقع الحال، لكن الاستسلام لدور المتفرج على ساحة اللعب، يقضي على الفردانية وروح المبادرة، يضعف الوعي وينتهك ملكاته، "الفرد يتحرك بشكل واعٍ ومقصود، أمَّا الجمهور فيتحرك بشكل لاواعٍ. ذلك أنَّ الوعي فردي تحديدًا، أمَّا اللاوعي فهو جماعي" (ص124).

لقد نجا أحمد بنفسه، وانفصل عن الجموع، غرَّد خارج السرب، وصنع صوته المتفرِّد بنقده الجريء اللاذع، يبدأ من ذاته وخالقه، ويعري تشوهات مجتمعه بلا تردد أو وجل، يعتبر الفضيلة سجن، ويصف نفسه المتناقضة بالقول "أنا شخص يتألم لارتكاب الهفوات بعد حصولها، ويسبق الجميع إليها" (ص22)، "أنا غير أممي، رغم أنني لا أبخل بالحزن على المتشردين"، "أنا بودليري النزعة، أُمجِّد الشر" (ص72).

يسرد قصة الحاجة باسمة التي اغتَصبتْ ميرا الصغيرة، وحين كبرت ميرا انتقمتْ لنفسها باغتصاب سارة ابنة الحاجة، ثم انتحرت. يحكي قصة الحاج أبو صالح الذي كان يرمي القنابل اليدوية على البشر، وفي آخر حياته دخل السجن بتهمة الاحتيال. يفضح المستور من التشوهات والزيف الاجتماعي، ويفسِّر العطب الكامن فينا، بأننا نشأنا في كنتونات مغلقة، تمجد الاستبداد وعبدة الذات، و"تربينا منذ طفولتنا على التصفيق، لا على السؤال" (ص30)[2].

تهامة الجندي



[1] محسن أحمد (2013). صانع الألعاب، رواية في 133 صفحة. بيروت-لبنان، دار نوفل.

[2] نُشر في صحيفة المستقبل. ملحق نوافذ. آب 2013

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة